فكر أرنت بين السياق والتأثيرات

اقرأ في هذا المقال


تعتبر مذكرات حنة أرندت الفكرية (Denktagebuch) سجلًا فريدًا للحياة الفكرية وواحدًا من أروع وأفضل أرشيفات أدبالقرن العشرين والفكر السياسي والفلسفة، وتتكون مذكراتها الفكرية من ثمانية وعشرين دفترًا مكتوبًا بخط اليد، باللغة الألمانية بشكل أساسي ولكن جزئيًا باللغتين الإنجليزية واليونانية، وقد بدأ في عام 1950 ويتحول إلى ملاحظات متفرقة في أوائل السبعينيات.

إلى حد بعيد تعود غالبية المدخلات التي تتراوح من التأملات الشخصية إلى المشاركات الجدلية الكثيفة مع المفكرين الآخرين من الخمسينيات والستينيات، وتعد مذكراتها الفكرية (Denktagebuch) منبعًا فكريًا يوضّح مدى قرب قراءة أرنت لأعمال محاوريها وتسجيل المصادر المخفية سابقًا، وعرض الطبيعة الديناميكية والمتطورة لتفكير أرنت.

سياق فكر وفلسفة أرندت:

حنة أرندت هي الشخصية الأكثر تحديًا لأي شخص يرغب في فهم طبيعة عملها في الفلسفة السياسية، فلم تكتب أبدًا أي شيء من شأنه أن يمثل فلسفة سياسية منهجية، وهي فلسفة يتم فيها شرح حجة مركزية واحدة وتوسيعها في سلسلة من الأعمال، بل بدلاً من ذلك تغطي كتاباتها العديد من الموضوعات المتنوعة، والتي تغطي قضايا مثل الشمولية والثورة وطبيعة الحرية وملكات التفكير والحكم وتاريخ الفكر السياسي وما إلى ذلك.

تعتبر كتابات أرندت مفكرة في الجدل غير الأرثوذكسي والمعقد، وهي مستوحاة من هايدجر وأرسطو وأوغسطين وكانط ونيتشه وياسبرز وآخرين.

يتجلى هذا التوليف المعقد للعناصر النظرية في التوافر الظاهر لفكرها لمجموعة واسعة ومتباينة من المواقف في النظرية السياسية، فعلى سبيل المثال الديموقراطيون التشاركيون مثل بنيامين باربر وشيلدون وولين والجماعات الشيوعية مثل ساندل وماكنتاير والكانطيين الجدد بين الذات مثل هابرماس وألبريشت ويلمر وريتشارد بيرنشتاين وسييلا بن حبيب…. إلخ.

ومع ذلك قد يظل من الممكن تقديم فكرها ليس كمجموعة من التدخلات المنفصلة، ولكن كمجموعة متماسكة من العمل الذي يأخذ سؤالًا واحدًا ونهجًا منهجيًا واحدًا، والذي يقوم بعد ذلك بإبلاغ مجموعة واسعة من الاستفسارات، ويبقى السؤال الذي يتفاعل معه فكر أرنت وربما قبل كل شيء آخر، هو طبيعة السياسة والحياة السياسية التي تختلف عن المجالات الأخرى للنشاط البشري.

إنّ محاولاتها لتفسير إجابة لهذا السؤال ومن بين أمور أخرى دراسة القوى التاريخية والاجتماعية، والتي أصبحت تهدد وجود عالم سياسي مستقل لها طابع فينومينولوجي واضح، وإنّ عمل أرنت إذا كان يمكن القول أنّه يفعل أي شيء، يمكن أن يقال إنّه يقوم بإعادة بناء ظاهرية لطبيعة الوجود السياسي مع كل ما يستلزمه ذلك في طريقة التفكير والتصرف.

أثر فلسفة هايدجر على فكر أرنت:

يمكن تتبع الطبيعة الظاهراتية لفحص أرنت (بل ودفاعها) عن الحياة السياسية من خلال التأثير العميق الذي يمارس عليها كل من هايدجر وياسبرز، ويمكن رؤية أنّ هايدجر على وجه الخصوص قد أثر بعمق على فكر أرنت.

فعلى سبيل المثال في شكهم المشترك في تحرك (التقليد الميتافيزيقي) نحو التأمل المجرد والابتعاد عن الفهم المباشر والدنيوي والمشاركة، وفي نقدهم للمحاولات الحسابية والأداتية الحديثة، ولترتيب العالم والسيطرة عليه، وفي تأكيدهم على التعددية والاختلاف الذي لا ينفصم، والذي يميّز الكائنات كمظاهر دنيوية وما إلى ذلك.

ومع ذلك فإنّ هذا لا يعني إخفاء الاختلافات العميقة التي كانت بين أرنت وهايدجر، ليس فقط مع انتمائه السياسي للنازيين أو تحركاته لاحقًا إلى التأمل الفلسفي الشعري وتنازله عن المشاركة السياسية، ومع ذلك يمكن الادعاء بشكل مبرر أنّ استفسارات أرنت تتبع زخمًا حاسمًا من مشروع هايدجر في الوجود والوقت.

يمكن فهم نهج أرنت المميز كمفكر سياسي من الزخم المستمد من (فينومينولوجيا الوجود) عند هايدجر، حيث إنّها لا تقوم بتحليل المفاهيم السياسية العامة مثل السلطة والقوة والدولة والسيادة وما إلى ذلك، المرتبطة تقليديًا بالفلسفة السياسية، ولا عن طريق التراكم الكلي للبيانات التجريبية المرتبطة بالعلوم السياسية.

بل بدلاً من ذلك بدءًا من إعطاء الأولوية الفينومينولوجية للطابع الواقعي والتجريبي للحياة البشرية، كما تتبنى منهجًا ظاهريًا وبالتالي تحاول الكشف عن الهياكل الأساسية للتجربة السياسية، وبتجنب الإنشاءات الحرة العائمة والمخطط المفاهيمي الذي فرض تجربة لاحقة من قبل الفلسفة السياسية.

فينومينولوجيا وفلسفة أرندت:

تتبع أرنت بدلاً من ذلك عودة الفينومينولوجيا (أي علم الظواهر يختلف عن علم طبيعة الوجود) للأشياء نفسها (zu den Sachen selbst)، بهدف من خلال هذا التحقيق إتاحة الهياكل والخصائص الموضوعية لالوجود السياسي في العالم، متميزًا عن أشكال الحياة الأخرى كالأخلاقية والعملية والفنية والإنتاجية وما إلى ذلك.

ومن ثم يمكن النظر إلى شرح أرنت للسمات التأسيسية للنشاط الواقعي في الحالة الإنسانية من مثل الجهد والعمل والفعل، على أنّه يمكن أن يُنظر إليه بأنّه الكشف الفينومينولوجي عن هياكل العمل البشري كوجود وتجربة بدلاً من إنشاءات مفاهيمية مجردة أو تعميمات تجريبية حول ما يفعله الناس عادةً.

أي أنّها تقترب فيما يتعلق بخصوصية المجال السياسي من الوجود، وأن تكون مفاصل كينونة الدازاين والتي تعني أن يكون هناك ففي الهيغلية تعني الوجود أو الوجود المحدد، حيث تعني في الوجودية الوجود البشري هي هايدجر في الكينونة والزمان.

هذا النهج الظاهراتي للمشاركين السياسيين في إعادة تقييم أكثر عمومية أو عكس الأولوية التي تُعزى تقليديًا إلى المفاهيم الفلسفية فوق التجربة المعاشة، وهذا يعني أنّ عالم الخبرة والتفسير المشترك (Lebenswelt) أو عالم الحياة يعتبر أساسيًا، وتعتمد المعرفة النظرية على تلك التجربة المشتركة في شكل تحديد أو استقراء مما هو موجود بشكل أساسي وقبل انعكاس في التجربة اليومية.

يترتب على ذلك بالنسبة لأرنت أنّ للفلسفة السياسية دورًا غامضًا بشكل أساسي في علاقتها بالتجربة السياسية، وطالما أنّ صياغاتها المفاهيمية لا توضح ببساطة هياكل التجربة السابقة للتأمل بل يمكنها أيضًا أن تحجبها وتصبح أفكارًا مسبقة قائمة بذاتها، وبين البحث الفلسفي والتجارب المعنية مما يؤدي إلى تشويه الجوهر الظاهراتي للتجربة من خلال فرض عدسة تحيزاته الخاصة عليه.

لذلك ترى أرنت أنّ الجوهر المفاهيمي للفلسفة السياسية التقليدية هو عائق، لأنّها تُدخل الافتراضات بين المستفسر والظواهر السياسية المعنية، وبدلاً من اتباع الوصفة المنهجية لهوسرل حول الانحراف (حقبة أو العصر) الموقف الفلسفي السائد، تتبع أرنت أسلوب هيدجر التاريخي أو التدمير لإزالة التشويش المشوه للتقاليد الفلسفية، وبالتالي تهدف إلى الكشف عن الطابع الأصلي للتجربة السياسية التي لديها في معظم الأحيان كان مسدوداً.

لا توجد طريقة بسيطة لتقديم استفسارات أرندت المتنوعة حول طبيعة ومصير السياسي المتصور على أنّه نمط مميز للتجربة الإنسانية والوجود، حيث تقدم مجموعة كتاباتها مجموعة من الحجج، كما تطور مجموعة من الفروق المفاهيمية، والتي تتداخل من نص إلى نص وتشكل شبكة من الرحلات المترابطة، ولذلك ربما تكون الطريقة الوحيدة للمضي قدمًا هي تقديم ملخص لأعمالها الرئيسية، بترتيب زمني تقريبًا مع محاولة إبراز الاستمرارية التي تجمعهم معًا في كل متماسك.


شارك المقالة: