فلسفة أرسطو في الصداقة

اقرأ في هذا المقال


موضوع الكتاب الثامن والتاسع من الأخلاق هو الصداقة، على الرغم من صعوبة تجنب مصطلح الصداقة باعتباره ترجمة لكلمة (philia) وهذا مصطلح دقيق لنوع العلاقة التي يهتم بها كثيرًا، بحيث يجب أن يتم وضع في الاعتبار أنّه يناقش مجموعة واسعة من الظواهر من هذه الترجمة التي قد تقود إلى التوقع، لأنّ الإغريق يستخدمون مصطلح (philia) لتسمية العلاقة التي تربط بين أفراد الأسرة ولا يحتفظون بها للعلاقات الطوعية.

على الرغم من اهتمام أرسطو بتصنيف الأشكال المختلفة التي تتخذها الصداقة، إلّا أنّ موضوعه الرئيسي في الكتابين الثامن والتاسع هو إظهار العلاقة الوثيقة بين النشاط الفاضل والصداقة، وأنّه يدافع عن مفهومه للسعادة كنشاط فاضل من خلال إظهار مدى إرضاء العلاقات التي يمكن أن يتوقعها الشخص الفاضل عادة.

قواعد الصداقة في فلسفة أرسطو:

من الممكن أحيانًا ترجمة الفعل (philein) المرتبط بالاسم (philia) إلى فعل (أعجبني) أو حتى (حب)، ​​على الرغم من أنّه في حالات أخرى تتضمن (philia) القليل جدًا في طريقة الشعور، وهنا يبدأ تصنيف أرسطو بفرضية أنّ هناك ثلاثة أسباب رئيسية تجعل شخصًا ما يحب شخصًا آخر، حيث أنّه قد يحب المرء شخصًا ما:

1- لأنّه شخص صالح.

2- أو لأنّه شخص مفيد.

3- أو لأنّه شخص لطيف.

وبالتالي هناك ثلاث قواعد للصداقات اعتمادًا على أي من هذه الصفات تربط الأصدقاء معًا، وعندما يدرك شخصان أنّ الشخص الآخر هو شخص ذو شخصية جيدة، ويقضيان وقتًا مع بعضهما البعض منخرطين في أنشطة تمارس فضائلهما فإنّهما يشكلان نوعًا واحدًا من الصداقة، وإذا كانوا فاضلين بنفس القدر فإنّ صداقتهم مثالية.

فلسفة أرسطو في الصداقات غير الكاملة:

يوضح أرسطو أنّه إذا كانت هناك فجوة كبيرة في نمو الأشخاص الأخلاقي، من مثل الصداقة ما بين الوالد والطفل الصغير أو بين الزوج والزوجة، وعلى الرغم من أنّ علاقتهما قد تكون مبنية على شخصية الشخص الآخر، فإنّها ستكون غير كاملة وعلى وجه التحديد بسبب عدم المساواة.

ومع ذلك فإنّ الصداقات غير الكاملة التي يركز عليها أرسطو ليست علاقات غير متكافئة تقوم على حسن الخلق، وبدلاً من ذلك فهي علاقات متماسكة لأنّ كل فرد يعتبر الآخر مصدرًا لبعض المزايا لنفسه أو بعض المتعة التي يتلقاها، وعندما يسمي أرسطو هذه العلاقات (بالنقص)، فإنّه يعتمد ضمنًا على افتراضات مقبولة على نطاق واسع حول ما يجعل العلاقة مرضية.

وهذه الصداقات معيبة ولديها ادعاء أصغر أن يطلق عليها (صداقات)، لأنّ الأفراد المعنيين ليس لديهم ثقة كبيرة في بعضهم البعض ويتشاجرون كثيرًا ومستعدون لقطع ارتباطهم فجأة، ولا يقصد أرسطو الإيحاء بأنّ العلاقات غير المتكافئة القائمة على الاعتراف المتبادل بالصفات الحميدة معيبة بنفس هذه الطرق.

وبدلاً من ذلك عندما يقول إنّ العلاقات غير المتكافئة القائمة على الشخصية غير كاملة، فإنّ وجهة نظره هي أنّ الناس أصدقاء بكل معنى الكلمة عندما يقضون أيامهم معًا في أنشطة مشتركة بسرور، وهذا التفاعل الوثيق والمستمر أقل توفّرًا لمن لا يتساوون في نموهم الأخلاقي.

فلسفة أرسطو في الصداقة وحسن النية:

عندما يبدأ أرسطو مناقشته عن الصداقة فإنّه يقدم فكرة أساسية لفهمه لهذه الظاهرة، وذلك بأنّ الصديق الحقيقي هو الشخص الذي يحب أو يعجب شخصًا آخر من أجل ذلك الشخص الآخر، ويريد ما هو جيد من أجل الآخر ويسميه (حسن النية) (eunoia)، والصداقة هي نوايا حسنة متبادلة بشرط أن يدرك كل منهما وجود هذا الموقف في الآخر، فهل هذه النية الحسنة موجودة في جميع أنواع الصداقة الثلاثة، أم أنّها محصورة في العلاقات القائمة على الفضيلة؟

في البداية يترك أرسطو أول هذين الاحتمالين مفتوحًا، ثم يوضّح بأنّه من الضروري أن يتحلى الأصدقاء بحسن نية لبعضهم البعض ويتمنون الخير لبعضهم البعض دون أن يفلتوا من ملاحظة ذلك، وذلك لأحد الأسباب المذكورة من الخير والسرور والمنفعة، ولذا يبدو أنّ أرسطو يترك مجالًا لفكرة أنّه في جميع أنواع الصداقات الثلاثة حتى تلك القائمة على الميزة والمتعة وحدهما، يتمنى الأفراد لبعضهم البعض الخير من أجل الآخر.

لكن في الواقع بينما يواصل أرسطو تطوير تصنيفه فإنّه لا يختار استغلال هذا الاحتمال، وإنّه يتحدث كما لو أنّه في الصداقات القائمة على الشخصية فقط يجد المرء رغبة في إفادة الشخص الآخر من أجل الشخص الآخر.

إنّ أولئك الذين يتمنون أشياء جيدة لأصدقائهم من أجل هذا الأخير هم أصدقاء أكثر من أي شيء آخر، لأنّهم يفعلون ذلك بسبب أصدقائهم أنفسهم وليس من قبيل الصدفة، وذلك عندما يفيد المرء شخصًا ليس بسبب نوع الشخص الذي هو عليه ولكن فقط بسبب المزايا التي يتمتع بها، وكما يقول أرسطو: “فإنّ المرء ليس صديقًا تجاه الشخص الآخر ولكن فقط من أجل الربح الذي يأتي في طريقه”.

في مثل هذه العبارات يقترب أرسطو من القول بأنّ العلاقات القائمة على الربح أو المتعة لا ينبغي أن تسمى صداقات على الإطلاق، ولكنه قرر البقاء على مقربة من اللغة الشائعة واستخدام مصطلح (صديق) بشكل فضفاض، فالصداقات القائمة على الشخصية هي تلك التي يفيد فيها كل شخص الآخر من أجل الآخر، وهذه الصداقات أكثر من أي شيء آخر لأنّ كل طرف يفيد الآخر فمن المفيد تكوين صداقات كهذه.

وبما أنّ كل منهما يتمتع بثقة ورفقة الآخر فهناك متعة كبيرة في هذه العلاقات أيضًا، ونظرًا لأنّ هذه الصداقات المثالية تنتج مزايا ومتعة لكل من الطرفين، فهناك أساس ما للتوافق مع الاستخدام الشائع واستدعاء أي علاقة يتم الدخول فيها من أجل صداقة واحدة فقط من هذه الحاجات.

حيث إنّ الصداقات القائمة على الميزة وحدها أو المتعة وحدها تستحق أن تسمى صداقات لأنّه في الصداقات الكاملة توجد هاتان الخاصيتان وهما الميزة والمتعة، ومن اللافت للنظر أنّ أرسطو لم يفكر أبدًا في كتاب الأخلاق بالقول إنّ العامل الموحد في جميع الصداقات هو رغبة كل صديق في خير الآخر.

لا يثير أرسطو أسئلة حول ماهية الرغبة في الخير من أجل شخص آخر، ويتعامل مع هذا على أنّه ظاهرة يسهل فهمها ولا يشك في وجودها، ولكن من الواضح أيضًا أنّه يتخذ هذا الدافع ليكون متوافقًا مع حب المرء لمصلحته ورغبته في السعادة، فالشخص الذي لديه حكمة عملية سيدرك أنّه يحتاج إلى أصدقاء وموارد أخرى لممارسة فضائله على مدى فترة طويلة من الزمن، وعندما يكوّن صداقات ويفيد أصدقاء أقامهم سيكون على دراية بحقيقة أنّ هذه العلاقة مفيدة له.

ومع ذلك فإنّ وجود صديق هو الرغبة في إفادة شخص ما من أجل ذلك الشخص الآخر، حيث أنّها ليست مجرد استراتيجية مصلحة ذاتية، فلا يرى أرسطو صعوبة هنا وهو محق في ذلك، لأنّه لا يوجد سبب يمنع القيام بأعمال الصداقة جزئيًا لمصلحة الصديق وجزئيًا لمصلحته، والعمل من أجل الآخر لا يتطلب في حد ذاته التضحية بالنفس، بينما يتطلب الاهتمام بشخص آخر غير نفسه، ولا يتطلب فقدان الاهتمام بنفسه، لأننا عندما نعرف كيف نفيد صديقًا من أجله فإننا نمارس الفضائل الأخلاقية وهذا هو بالضبط ما تتكون سعادتنا.


شارك المقالة: