فلسفة أرسطو في الفضائل الفكرية

اقرأ في هذا المقال


نظرًا لأنّ أرسطو غالبًا ما يلفت الانتباه إلى عدم دقة النظرية الأخلاقية، فقد كان مفاجأة للعديد من قراء الأخلاق أنّه بدأ الكتاب السادس مع الاعتراف بأنّ تصريحاته السابقة حول متوسط بحاجة إلى التكميل لأنّها لم يتضح بعد بشكل واضح، ففي كل تخصص عملي يهدف الخبير إلى الحصول على علامة ويستخدم السبب الصحيح لتجنب التطرف المزدوج من الزيادة والنقص، ولكن ما هو هذا السبب الصحيح، وبأي معيار أساسي يجب تحديده؟

أرسطو وأنواع الفضائل الفكرية:

يقول أرسطو أنّه ما لم نجيب على سؤال المعيار الأساسي لنظرية التوسط فلن نكون أكثر حكمة، فليس من السهل فهم النقطة التي يطرحها أرسطو هنا، فلم يخبرنا بالفعل أنّه لا يمكن أن يكون هناك دليل نظري كامل للأخلاق، وأنّ أفضل ما يمكن للمرء أن يأمل فيه هو أنّه في مواقف معينة ستساعد العادات الأخلاقية والحكمة العملية المرء على تحديد ما يجب فعله؟

علاوة على ذلك لم يعلن أرسطو في أي مكان في باقي الكتاب السادس أننا حققنا درجة أكبر من الدقة التي يبدو أنّه يبحث عنها، كما أنّ بقية هذا الكتاب عبارة عن مناقشة لمختلف أنواع الفضائل الفكرية:

1- الحكمة النظرية.

2- العلم (epistêmê).

3- الفهم الحدسي (nous).

4- الحكمة العملية.

5- الخبرة الحرفية.

فضيلة أرسطو والحكمة العملية والنظرية:

يشرح أرسطو ماهية كل حالة من هذه الحالات الذهنية ويرسم تباينات مختلفة فيما بينها، ويتناول العديد من الأسئلة التي يمكن طرحها حول فائدتها، ولم يعد صراحة في أي وقت إلى السؤال الذي طرحه في بداية الكتاب السادس، ولم يقل أبدًا: “والآن لدينا معيار السبب الصحيح الذي كنا نبحث عنه”، كما أنّه ليس من السهل أن نرى كيف أن مناقشته لهذه الفضائل الفكرية الخمس يمكن أن تضفي مزيدًا من الدقة على عقيدة الوسط.

ومن الممكن إحراز بعض التقدم نحو حل هذه المشكلة وذلك عندما يصف أرسطو استفساره في بداية الاخلاق، على أنّه محاولة لتطوير فهم أفضل لما يجب أن يكون هدفنا النهائي، والإجابة البسيطة التي قدمها في الكتاب الأول هي أنّ السعادة تتكون من نشاط فاضل.

في الكتب من الثاني إلى الخامس يصف فضائل جزء الروح العقلاني من حيث أنّه يمكن أن يكون منتبهًا للعقل، على الرغم من أنّه غير قادر على التداول، ولكن على وجه التحديد لأنّ هذه الفضائل عقلانية فقط بهذه الطريقة المشتقة فهي عنصر أقل أهمية في نهايتنا النهائية من الفضيلة الفكرية -الحكمة العملية- التي تتكامل معها.

وإذا كان ما نعرفه عن الفضيلة هو فقط ما يقال في الكتب من الثاني إلى الخامس، فإنّ الفهم للنهاية النهائية غير مكتمل جذريًا، لأنّه لم يتم دراسة الفضيلة الفكرية التي تمكن المرء من التفكير جيدًا في أي موقف معين، وأحد الأشياء التي يشير إليها أرسطو على الأقل في بداية الكتاب السادس هي الحكمة العملية، ولم يتم تحليل هذه الحالة الذهنية بعد، وهذا أحد أسباب شكواه من أنّ روايته عن نهايتنا النهائية ليست واضحة بما فيه الكفاية بعد.

ولكن هل الحكمة العملية هي المكون الوحيد لغايتنا النهائية التي لم تتم مناقشتها بشكل كافٍ بعد؟ يناقش الكتاب السادس خمس فضائل فكرية، ليس فقط الحكمة العملية ولكن من الواضح أنّ واحدة منها على الأقل المعرفة الحرفية ويتم النظر فيها فقط من أجل تقديم التناقض مع الآخرين، فلا ينصح أرسطو قراؤه بجعل هذه الفضيلة الفكرية جزءًا من هدفهم النهائي، ولكن ماذا عن الثلاثة المتبقية: العلم والفهم الحدسي والفضيلة التي تجمعهم الحكمة النظرية؟

هل هذه موجودة في الكتاب السادس فقط من أجل تقديم تناقض مع الحكمة العملية، أم أنّ أرسطو يقول أنّ هذه أيضًا يجب أن تكون مكونات لهدفنا؟ إنّه لا يعالج هذه المسألة بشكل كامل، لكن يتضح من العديد من ملاحظاته في الكتاب السادس أنّه يتخذ الحكمة النظرية حالة ذهنية أكثر قيمة من الحكمة العملية، ومن الغريب أن يعتقد شخص ما أنّ السياسة أو الحكمة العملية هي أفضل أنواع المعرفة، إلّا إذا كان الإنسان هو أفضل شيء في الكون.

يقول إنّ الحكمة النظرية تنتج السعادة من خلال كونها جزءًا من الفضيلة، وأنّ الحكمة العملية تتطلع إلى تطور الحكمة النظرية وتصدر الأوامر من أجلها، لذلك من الواضح أنّ ممارسة الحكمة النظرية عنصر أكثر أهمية لهدفنا النهائي من الحكمة العملية.

ومع ذلك قد لا يزال من المحير أنّ هاتين الفضيلتين الفكريتين سواء بشكل منفصل أو جماعي، يجب أن تملأ بطريقة أو بأخرى فجوة في عقيدة الوسط، وبعد قراءة الكتاب السادس لهذين الشكلين من الحكمة كيف من المُمكن أن يتم النجاح بشكل أفضل في إيجاد الوسيلة في مواقف معينة؟

قد تكون الإجابة على هذا السؤال هي أنّ أرسطو لا ينوي أن يقدم الكتاب السادس إجابة كاملة على هذا السؤال، بل أن يكون بمثابة ظاهرة أولية للإجابة، لأنّه قرب نهاية الكتاب العاشر فقط يقدم مناقشة كاملة للمزايا النسبية لهذين النوعين من الفضيلة الفكرية، ويعلق على الدرجات المختلفة التي يحتاج كل منها إلى تزويده بالموارد.

فلسفة أرسطو في الحياة السعيدة:

كما يجادل بأنّ أسعد أنواع الحياة هو حياة الفيلسوف فهو شخص يمارس على مدى فترة طويلة من الزمن فضيلة الحكمة النظرية، ولديه الموارد الكافية للقيام بذلك، وأحد أسباب اعتقاده أنّ مثل هذه الحياة تتفوق على ثاني أفضل نوع من الحياة هي حياة القائد السياسي كشخص يكرس نفسه لممارسة الحكمة العملية بدلاً من الحكمة النظرية، وهو أنّها تتطلب معدات خارجية.

لقد أوضح أرسطو بالفعل في مناقشته للفضائل الأخلاقية أنّ الشخص الذي يتم تكريمه بشكل كبير من قبل مجتمعه ويتحكم بموارد مالية كبيرة يكون في وضع يسمح له بممارسة مرتبة أعلى من الفضيلة الأخلاقية من شخص يحصل على القليل من التكريمات ويملك القليل من الممتلكات، فالفضيلة العظمة تتفوق على السخاء، وبالمثل فإنّ عظمة الروح هي امتياز أعلى من الفضيلة العادية التي لها علاقة بالشرف.

يتطلب أعظم تعبير عن الفضيلة الأخلاقية قوة سياسية كبيرة، لأنّ القائد السياسي هو الذي يمكنه أن يفعل أكبر قدر من الخير للمجتمع، والشخص الذي يختار أن يعيش الحياة السياسية والذي يهدف إلى أقصى تعبير عن الحكمة العملية لديه معيار لتحديد مستوى الموارد التي يحتاجها، بحيث يجب أن يكون لديه أصدقاء وممتلكات وشرف بكميات كافية للسماح بحكمته العملية للتعبير عن نفسه دون عائق.

ولكن إذا اختار المرء بدلاً من ذلك حياة الفيلسوف، فحينئذٍ سينظر المرء إلى معيار مختلف وهو التعبير الكامل عن الحكمة النظرية، وسيحتاج المرء إلى كمية أقل من هذه الموارد.

وهذا يمكّن من رؤية كيف أنّ معالجة أرسطو للفضائل الفكرية تعطي محتوى ودقة أكبر لعقيدة الوسط، وأفضل معيار هو الذي تبناه الفيلسوف، والثاني هو الأفضل الذي يتبناه الزعيم السياسي، وفي كلتا الحالتين  فإنّ ممارسة فضيلة فكرية توفر دليلاً لاتخاذ قرارات كمية مهمة.

يتوافق هذا الملحق لعقيدة المتوسط ​​تمامًا مع أطروحة أرسطو القائلة بأنّه لا توجد مجموعة من القواعد، بغض النظر عن طولها وتفصيلها فإنّها تغني عن الحاجة إلى فضيلة تداولية وأخلاقية، وإذا اختار المرء حياة الفيلسوف فيجب على المرء أن يحافظ على مستوى موارده مرتفعًا بما يكفي لتأمين الراحة اللازمة لمثل هذه الحياة، ولكن ليس مرتفعًا لدرجة أنّ المعدات الخارجية تصبح عبئًا وإلهاءً بدلاً من مساعدة للعيش بشكل جيد .

هذا يعطي المرء فكرة أكثر ثباتًا عن كيفية الوصول إلى المتوسط ​، لكنه لا يزال يترك التفاصيل ليتم العمل عليها، وسيحتاج الفيلسوف أن يحدد في مواقف معينة أين تكمن العدالة، وكيف ينفق بحكمة ومتى يواجه أو يتجنب الخطر وما إلى ذلك، وتبقى جميع الصعوبات العادية للحياة الأخلاقية، ولا يمكن حلها إلّا عن طريق الفهم التفصيلي لخصوصيات كل موقف، حيث إنّ وجود الفلسفة كهدف نهائي للفرد لا يضع حدًا للحاجة إلى تطوير وممارسة الحكمة العملية والفضائل الأخلاقية.


شارك المقالة: