فلسفة أرسطو في تكوين العلاقات مع الآخرين

اقرأ في هذا المقال


من وجهة نظر أرسطو من المغري التفكير في أنّ علاقاتنا مع الآخرين كالصداقة يمكن أن تُظهر لنا شيئًا مهمًا حول الفضيلة الأخلاقية لأنّه في هذا السياق يأتي الكرم والشجاعة ونكران الذات بسهولة أكبر.

أرسطو والصداقة المثالية:

يوضح أرسطو أنّ عدد الأشخاص الذين يمكن للمرء أن يحافظ معهم على نوع العلاقة التي يسميها صداقةمثالية صغير جدًا، حتى لو عاش المرء في مدينة مأهولة بالكامل من قبل مواطنين فاضلين تمامًا، فإنّ العدد الذي يمكن للمرء أن يقيم صداقة من النوع المثالي معه سيكون على الأكثر عددًا قليلاً.

يفسّر أرسطو ذلك لأنّه يعتقد أنّ هذا النوع من الصداقة لا يمكن أن يوجد إلّا عندما يقضي المرء وقتًا طويلاً مع الشخص الآخر، والمشاركة في الأنشطة المشتركة والانخراط في سلوك مفيد للطرفين، ولا يمكن التعاون على هذه العلاقات الوثيقة مع كل عضو في المجتمع السياسي، والذي قد يتساءل المرء عن سبب أهمية هذا النوع من الصداقة الحميمة لتحقيق السعادة.

فإذا عاش المرء في مجتمع مليء بالناس الطيبين وتعاون مع كل منهم على أساس عرضي بروح من حسن النية والإعجاب، أفلا يوفر ذلك مجالًا كافيًا للنشاط الفاضل وحياة جيدة؟ يبدو أنّه من المسلم به أنّ الأصدقاء المقربين غالبًا ما يكونوا في وضع أفضل لإفادة بعضهم البعض بخلاف المواطنين، الذين لديهم عمومًا القليل من المعرفة بالظروف الفردية للفرد، ولكن هذا يظهر فقط أنّه من المفيد أن تكون على الطرف المتلقي لمساعدة الصديق.

لكن السؤال الأكثر أهمية بالنسبة لأرسطو هو لماذا يجب على المرء أن يكون في نهاية هذه العلاقة؟ فمن الواضح أنّ الإجابة لا يمكن أن تكون أنّ المرء يحتاج إلى العطاء من أجل الحصول، حيث من شأنه أن يحوّل الحب النشط لصديق المرء إلى مجرد وسيلة للفوائد التي يحصل عليها.

يحاول أرسطو الإجابة على هذا السؤال في أحد أعماله الفلسفية لكن معاملته مخيبة للآمال، حيث تعتمد حجته الكاملة بشكل حاسم على فكرة أنّ الصديق هو (نفس أخرى) أي شخص آخر، وبعبارة أخرى تربطه به علاقة شبيهة جدًا بالعلاقة التي تربط المرء بنفسه.

يحب الشخص الفاضل الاعتراف بنفسه على أنّه فاضل، وأن يكون لديك صديق مقرب يعني أن تمتلك شخصًا آخر بخلاف نفسه، ويمكن للمرء أن يتعرف على فضيلته في أماكن قريبة للغاية، وهكذا يجب أن يكون من المرغوب فيه أن يكون هناك شخص يشبه نفسه كثيرًا والذي يمكن للمرء أن يدرك نشاطه الفاضل، وهذه الحجة غير مقنعة لأنّها لا تفسر لماذا لا يكون تصور النشاط الفاضل لدى زملائه المواطنين بديلاً مناسبًا لإدراك الفضيلة لدى الأصدقاء.

سيكون أرسطو على أسس أقوى إذا تمكن من إظهار أنّه في حالة عدم وجود أصدقاء مقربين سيكون المرء مقيدًا بشدة في أنواع الأنشطة الفاضلة التي يمكن للمرء القيام بها، ولكنه لا يستطيع تقديم مثل هذه الحجة لأنّه لا يؤمن بها، حيث يقول إنّ تحقيق الرفاهية لمدينة بأكملها هو أرقى وأشبه بالإله بدلاً من الحفاظ على سعادة شخص واحد فقط.

كما إنّه يرفض اعتبار الحياة الخاصة من مثل عالم الأسرة والدائرة الصغيرة للأصدقاء، أفضل أو المكان الأكثر ملائمة لممارسة الفضيلة، وإنّه مقتنع بأنّ فقدان هذا المجال الخاص من شأنه أن ينتقص إلى حد كبير من الحياة الطيبة لكن يصعب عليه تفسير السبب.

ربما كان من الأفضل له التركيز على فوائد كونه موضوع رعاية صديق مقرب، تمامًا كما يتم الاعتناء بالممتلكات عندما يكون مملوكًا للجميع، ومثلما يعاني الطفل من سوء التغذية إذا لم يتلق رعاية أبوية خاصة، وهي النقاط التي أشار إليها أرسطو في فلسفته السياسية والتي ستفقد ميزة لا يمكن استبدالها برعاية المجتمع الأكبر.

لكن أرسطو لا يبحث عن دفاع من هذا النوع لأنّه يتصور الصداقة على أنّها كذبة أساسًا في النشاط بدلاً من التقبل، ومن الصعب في إطاره إظهار أنّ النشاط الفاضل تجاه صديق هو خير فريد من نوعه.

فلسفة أرسطو بين الصداقة والأنانية:

نظرًا لأنّ أرسطو يعتقد أنّ السعي وراء سعادته فإنّه يتطلب نشاطًا فاضلاً أخلاقياً، وبالتالي سيكون ذا قيمة كبيرة ليس فقط لأصدقائه ولكن للمجتمع السياسي الأكبر أيضًا، فهو يجادل بأنّ حب الذات هو عاطفة مناسبة تمامًا بشرط أن يتم التعبير عنها في حب الفضيلة.

بينما يتم إدانة حب الذات بحق عندما تتكون من السعي وراء حصة كبيرة من الحاجات الخارجية خاصة الثروة والسلطة والتي يمكن أن يكتسبها المرء، لأنّ حب الذات هذا يؤدي حتمًا إلى نزاع مع الآخرين ويقوض استقرار المجتمع السياسي.

وقد يكون من المغري أن نضع دفاع أرسطو عن حب الذات في المصطلحات الحديثة من خلال وصفه بأنّه أناني، والأنانية مصطلح واسع بما يكفي بحيث يمكن تعريفه بشكل مناسب ليتناسب مع النظرة الأخلاقية لأرسطو، وإذا كانت الأنانية هي الفرضية القائلة بأنّ المرء سيتصرف دائمًا بشكل صحيح إذا استشار المرء المصلحة الذاتية ومفهومة بشكل صحيح، فلن يكون هناك شيء خاطئ في تحديده على أنّه أناني.

لكن الأنانية تُفهم أحيانًا بمعنى أقوى تمامًا كما العواقبية، فهي الفرضية القائلة بأنّه يجب على المرء تعظيم الصالح العام بغض النظر عن كونه صالحًا، وكذلك يمكن تعريف الأنانية على أنّها النظرية الموازية التي مفادها أنّه يجب على المرء تعظيم مصلحته بغض النظر عن الخير، وبعبارة أخرى يمكن التعامل مع الأنانية باعتبارها أطروحة رسمية بحتة، فهي تنص على أنّه سواء كان الخير هو المتعة أو الفضيلة أو إشباع الرغبات فلا ينبغي للمرء أن يحاول تعظيم المبلغ الإجمالي للخير في العالم ولكن فقط خاصة الفرد.

عندما تأخذ الأنانية هذا الشكل المجرد فهي تعبير عن فكرة أنّ ادعاءات الآخرين لا تستحق الاهتمام بها، إلّا إذا كان من الممكن بطريقة أو بأخرى إظهار مصلحتهم لخدمة مصالح المرء، والسبب الوحيد الذي لم يتم التعامل معه هو المصلحة الذاتية، حيث أنّ فعلًا ما يساعد شخصًا آخر لا يوفر بحد ذاته سببًا لأدائه ما لم يكن من الممكن إقامة علاقة بين مصلحة هذا الآخر ومصالح المرء.

لا يوجد سبب لنعزو هذا الشكل المتطرف من الأنانية إلى أرسطو، وعلى العكس من ذلك فإنّ دفاعه عن حب الذات يوضح أنّه ليس على استعداد للدفاع عن الفكرة المجردة بأنّ على المرء أن يحب نفسه بمفرده أو فوق الآخرين، كما إنّه يدافع عن حب الذات فقط عندما تكون هذه المشاعر مرتبطة بالنظرية الصحيحة لمكان تكمن الصالح، لأنّه بهذه الطريقة فقط يمكنه إظهار أنّ حب الذات لا يجب أن يكون شغفًا مدمرًا.

كما إنّه يعتبر أنّه من المسلم به أنّ حب الذات يتم إدانته بشكل صحيح كلما ثبت أنّه ضار بالمجتمع، وإنّه جدير بالثناء فقط إذا أمكن إثبات أنّ محب الذات سيكون مواطنًا رائعًا، وفي هذا الافتراض يكشف أرسطو أنّه يعتقد أنّ ادعاءات أعضاء آخرين في المجتمع حول العلاج المناسب صحيحة في جوهرها، وهذا هو بالضبط ما لا يمكن لشكل قوي من الأنانية قبوله.

يجب أن نضع في اعتبارنا أيضًا تصريح أرسطو في السياسة بأنّ المجتمع السياسي يسبق المواطن الفرد، وذلك تمامًا كما يسبق الجسم كله أي جزء من أجزائه، ويستفيد أرسطو من هذا الادعاء عندما يقترح أنّه في المجتمع المثالي يجب أن يتلقى كل طفل نفس التعليم، وأنّ مسؤولية توفير مثل هذا التعليم يجب أن يتم إخراجها من أيدي الأفراد وجعلها موضع اهتمام مشترك، وكما يقول: “لا مواطن ينتمي لنفسه حيث كلهم ينتمون إلى المدينة”.

ما يعنيه أرسطو  هو أنّه عندما يتعلق الأمر بمسائل مثل التعليم والتي تؤثر على خير الجميع، يجب أن يسترشد كل فرد بالقرارات الجماعية للمجتمع بأكمله، والمواطن الفرد لا ينتمي إلى نفسه، بمعنى أنّه ليس من اختصاصه وحده تحديد كيفية التصرف، بحيث يجب أن يُخضع سلطاته الفردية في اتخاذ القرار لسلطات الكل.

إنّ الشكل القوي للأنانية لا يمكن أن يقبل عقيدة أرسطو بشأن أولوية المدينة للفرد، حيث إنّه يخبر الفرد أنّ مصلحة الآخرين في حد ذاته ليس لها أي ادعاء صالح عليه، ولكن يجب أن يخدم أعضاء آخرين في المجتمع فقط إلى الحد الذي يمكنه من ربط مصالحهم بمصالحه، ومثل هذه العقيدة لا تترك مجالا للفكر بأنّ المواطن الفرد لا ينتمي لنفسه بل للجميع.


شارك المقالة: