فلسفة أرندت في التفكير والحكم

اقرأ في هذا المقال


يعود اهتمام الفيلسوفة حنة أرندت بالتفكير والحكم على الكليات السياسية إلى أعمالها الأولى، وقد تم تناولها لاحقًا في عدد من المقالات التي كتبت خلال الخمسينيات والستينيات، ومع ذلك في المرحلة الأخيرة من عملها التفتت لفحص هذه الكليات بطريقة منسقة ومنهجية.

لكن لسوء الحظ كان عملها غير مكتمل وقت وفاتها، وقد تم إكمال أول مجلدين فقط من العمل المتوقع المكون من ثلاثة مجلدات وهو حياة العقل، ومع ذلك فإنّ المحاضرات التي نُشرت بعد وفاتها حول فلسفة الفيلسوف إيمانويل كانط السياسية حددت ما يمكن أن يُفترض بشكل معقول أنّه تأملاتها الناضجة في الحكم السياسي.

فلسفة أرنت وملكة التفكير:

في المجلد الأول من حياة العقل الذي يتناول ملكة التفكير، تبذل أرنت جهدًا لتمييزها موضوع المعرفة، حيث إنّها تعتمد على تمييز كانط بين المعرفة أو الفهم (Verstand) والتفكير أو الاستدلال (Vernunft)، والذي ينتج عن الفهم معرفة إيجابية، أي إنّه البحث عن حقائق يمكن معرفتها، ومن ناحية أخرى يدفعنا العقل أو التفكير إلى ما هو أبعد من المعرفة، ويطرح باستمرار أسئلة لا يمكن الإجابة عليها من وجهة نظر المعرفة ولكننا مع ذلك لا يمكننا الامتناع عن طرحها.

بالنسبة لأرنت يرقى التفكير إلى السعي لفهم معنى عالمنا، من النشاط المتواصل والمضطرب للتشكيك في ما نواجهه، ولا تكمن قيمة التفكير في أنّه يؤدي إلى نتائج إيجابية يمكن اعتبارها مستقرة، بل أنّه يعود دائمًا إلى التساؤل مرارًا وتكرارًا عن المعنى الذي نعطيه للتجارب والأفعال والظروف، وهذا بالنسبة لأرنت جوهري لممارسة المسؤولية السياسية، أي إشراك هذه القوة التي تبحث عن معنى من خلال أسئلة لا هوادة فيها (بما في ذلك استجواب الذات).

كان فشل هذه القدرة على وجه التحديد هو الذي ميز تفاهة ميل أيخمان (Eichmann) للمشاركة في الشر السياسي، وأيخمان هو عضو في البرلمانالنازي الذي انتقدته في عملها الفلسفي أيخمان في القدس.

فلسفة أرنت وملكة الحكم:

لقد جذبت كلية الحكم المشابه اهتمامها الأكبر في كتابتها المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتفكير، لكنها متميزة عنها، حيث تعتبر نظريتها في الحكم على نطاق واسع واحدة من أكثر الأجزاء الأصلية في أعمالها، وبالتأكيد واحدة من أكثرها تأثيرًا في السنوات الأخيرة.

اهتمام أرندت بالحكم السياسي وأزمته في العصر الحديث موضوع متكرر في عملها، فقد اهتمت أرنت في فلسفتها بموضوع العمل وهي تتحسر على الاغتراب العالمي والذي يميز العصر الحديث، وتدمير عالم مؤسسي وتجريبي مستقر يمكن أن يوفر سياقًا مستقرًا يمكن للبشر أن ينظموا فيه وجودهم الجماعي.

علاوة على ذلك تجدر الإشارة إلى أنّ أرنت تدرك في العمل البشري (للخير أو السيء) القدرة على جلب الجديد وغير المتوقع وغير المسبوق إلى العالم، حيث تعني جودة العمل هذه أنّها تهدد باستمرار بتحدي أو تجاوز فئات الفهم أو الحكم الحالية لدينا، بحيث لا يمكن أن تساعدنا السوابق والقواعد في الحكم بشكل صحيح على ما هو غير مسبوق وجديد.

لذلك بالنسبة لأرنت فإنّ تصنيفاتنا ومعاييرنا الفكرية دائمًا ما تعاني من عدم ملاءمتها المحتملة فيما يتعلق بما يُطلب منهم الحكم عليه، ومع ذلك فإنّ هذا الانحراف في الحكم يصل إلى نقطة أزمة في القرن العشرين تحت التأثير المتكرر لأحداثه الوحشية وغير المسبوقة.

لقد أدى الدمار الشامل لحربين عالميتين وتطوير التقنيات التي تهدد بالإبادة العالمية وظهور الشمولية، وقتل الملايين في معسكرات الموت النازية وعمليات التطهير التي قام بها ستالين، إلى تفجير معاييرنا الحالية للحكم الأخلاقي والسياسي.

كما يكمن التقليد في شظايا ممزقة من حولنا واختفى الإطار الذي يمكن أن ينشأ فيه الفهم والحكم، وتبدو قواعد التفاهم المشتركة التي تم تسليمها إلينا في تقاليدنا ضائعة بشكل لا يمكن إصلاحه، وقد واجهت أرنت السؤال التالي: على أي أساس يمكن أن نحكم على ما لم يسبق له مثيل ولا يُصدق بشكل وحشي يتحدى فهمنا وخبراتنا الراسخة؟

إذا أردنا الحكم على الإطلاق فيجب أن يكون الآن بدون فئات مسبقة وبدون مجموعة القواعد العرفية التي هي الأخلاق، بحيث يجب أن يكون التفكير بدون درابزين (وهو مبدأ فكر أرنت)، ومن أجل ضمان إمكانية إصدار مثل هذا الحكم يجب على أرنت أن تثبت وجود هيئة بشرية مستقلة وغير مدعومة بالقانون والرأي العام، وتحكم من جديد بعفوية كاملة على كل فعل ونية كلما نشأت المناسبة.

يأتي هذا بالنسبة إلى أرنت ليمثل أحد الأسئلة الأخلاقية المركزية في كل العصور، ألّا وهو طبيعة ووظيفة الحكم البشري، ومع وضع هذا الهدف وهذا السؤال في الاعتبار يتقارب عمل السنوات الأخيرة لأرندت مع الفلسفة السياسية غير المكتوبة لنقد كانط للحكم.

تتجنب أرندت الحكم المحدد وهو الحكم الذي يندرج التفاصيل تحت قاعدة عامة أو قاعدة موجودة بالفعل، وبدلاً من ذلك تلجأ إلى تفسير كانط لـ الحكم التأملي، وهو حكم خاص لا توجد له قاعدة أو سابقة ولكن مع ذلك يجب التوصل إلى بعض الأحكام، وما تجده أرندت قيِّمًا للغاية في حساب كانط هو أنّ الحكم التأملي ينطلق من الخاص الذي يواجهه، ومع ذلك فإنّه يتمتع بلحظة عالمية، أي إنّه ينبثق من تشغيل قدرة مشتركة بين جميع الكائنات التي تمتلك ملكات العقل والفهم.

يتطلب منا كانط الحكم من وجهة النظر المشتركة هذه على أساس ما نشاركه مع الآخرين، من خلال تنحية شؤوننا أو اهتماماتنا الأنانية والخاصة، بحيث تتطلب منا كلية الحكم التأملي أن ننحي جانباً الاعتبارات الخاصة البحتة (مسائل الإعجاب الشخصي والمصلحة الخاصة)، وبدلاً من ذلك نحكم من منظور ما نشاركه مع الآخرين (أي يجب أن نكون غير مهتمين).

تضع أرنت وزنًا كبيرًا على هذه الفكرة الخاصة بملكة الحكم التي تفكر من وجهة نظر أي شخص آخر، كما إن ّطريقة التفكير الموسعة أو العقلية الموسعة تمكننا من مقارنة حكمنا ليس بالواقعية بقدر ما هو مجرد حكم محتمل للآخرين، وبالتالي نضع أنفسنا في موقف أي شخص آخر.

بالنسبة إلى أرنت أصبح هذا التفكير التمثيلي ممكنًا من خلال ممارسة الخيال، أي كما تقول أرندت بشكل جميل: “التفكير بعقلية متضخمة يعني أنّ المرء يدرب خياله على الذهاب للزيارة”، فالذهاب للزيارة بهذه الطريقة يمكننا من إصدار أحكام فردية خاصة يمكن مع ذلك الادعاء بصلاحيتها العامة، وفي هذه الكلية تجد أرنت أساسًا يمكن أن يُخرب على أساسه شكل من أشكال الحكم السياسي النزيه والمنفتح، ومع ذلك يكون قادرًا على معالجة الظروف والخيارات غير المسبوقة التي يواجهنا بها العصر الحديث.


شارك المقالة: