تراوحت أعمال الفيلسوفة جيرترود إليزابيث مارجريت أنسكومب (Gertrude Elizabeth Margaret Anscombe) على مدى سنوات عديدة والعديد من المجالات المختلفة في الفلسفة، وقد كان اتساع نطاق عملها مثير للإعجاب، كما كانت منهجية في تفكيرها ورؤيتها وتطوير الروابط بين الميتافيزيقيا وعلم النفس الأخلاقي والأخلاق التي لم تعرض ببساطة فهمًا لمشكلة معينة بل وجهة نظر عالمية، ويعد إرثها هو واحد من أوسع وأعمق ما تركه فيلسوف في القرن العشرين.
تأثير فيتجنشتاين:
التقت أنسكومب بالفيلسوف لودفيج جوزيف يوهان فيتجنشتاين (Ludwig Josef Johann Wittgenstein) في كامبريدج بعد تخرجها من أكسفورد، وحضرت محاضراته وأصبحت واحدة من أكثر طلابه إخلاصًا، كما كانت تعتقد أنّ محاضرات فيتجنشتاين على سبيل المثال هي التي حررتها من فخ الظاهراتية، وعندما عادت إلى أكسفورد واصلت السفر إلى كامبريدج للدراسة مع فيتجنشتاين.
وقد أصبحت أنسكومب أيضًا أحد أصدقاء فيتجنشتاين المقربين وبعد وفاته في عام 1951أصبحت أحد منفذي أعماله الأدبية، وقد كتب الفيلسوف البريطاني راي مونك (Ray Monk) أنّ أنسكومب كانت واحدة من أقرب أصدقاء فيتجنشتاين وأحد أكثر طلابه الموثوق بهم، باستثناء كرهه العام للنساء الأكاديميات وخاصة الفلاسفة الإناث، ولقد أصبحت في الواقع ذكرًا فخريًا خاطبها بمودة باعتبارها (شيخًا) على حد تعبيره.
كما قامت أنسكومب بترجمة تحقيقات فيتجنشتاين الفلسفية في عام 1953، وكتبت مقدمة إلى (Tractatus) في عام 1959 (تم نشر العمل في الأصل في عام 1921)، وقامت بتنظيم المنشورات الرئيسية لأعمال فيتجنشتاين اللاحقة على سبيل المثال ملاحظات على اللون والملاحظات (Remarks on Color and Zettel) كما قامت بترجمة عدد من أعماله الأخرى التي لا تقل أهمية.
مساهمات في الأخلاق:
قدمت أنسكومب مساهمات كبيرة في الأخلاق وكذلك الميتافيزيقيا، ويعود لها الفضل في صياغة مصطلح (العواقبية)، وكانت أيضًا معارضة قوية للنفعية وأشكال أخرى من العواقبية لأنّها لا تملك طريقة سليمة لعدم الموافقة على إعدام شخص بريء إذا كان ذلك سيؤدي إلى عواقب جيدة أو سعادة على نطاق واسع، وقالت عن شخص فكر بهذه الطريقة: “لا أريد أن أجادله، وإنّه يظهر عقل فاسد”.
كما جادلت أنسكومب في مقالتها عام 1958 بعنوان (الفلسفة الأخلاقية الحديثة) بأنّ المفاهيم الحالية مثل (الالتزام الأخلاقي) و(الواجب الأخلاقي) و(الصواب الأخلاقي) و(الخطأ الأخلاقي) هي أشياء تم استبعادها من الفكرة اليهودية المسيحية عن الله باعتباره مشرعًا للقانون، وأنّ هذه المفاهيم أصبحت الآن فارغة، وقالت إنّ كلمة (يجب) أن تصبح كلمة من مجرد قوة غامضة لأننا لم نعد نفعل الأشياء التي يجب علينا القيام بها لأنّ الله أمرنا.
كما ابتكرت أنسكومب مصطلح (الحقائق الغاشمة) على عكس الحقائق التي تشكلها في وجود المؤسسات المناسبة، وكان للمصطلح دور رئيسي في فلسفة جون سيرل ونظرية فعل الكلام.
تتابع ورقتها البحثية (الشخص الأول) ملاحظات فيتجنشتاين لتصل إلى نتيجة سيئة السمعة الآن مفادها أنّ ضمير المتكلم الأول (أنا) لا يشير إلى أي شيء (ليس على سبيل المثال للمتحدث)، وقلة من الناس تقبل الاستنتاج -على الرغم من أنّ الموقف تم تبنيه لاحقًا في شكل أكثر راديكالية من قبل ديفيد لويس- ولكن الورقة كانت مساهمة مهمة في العمل على المؤشرات والوعي الذاتي التي قام بها فلاسفة متنوعون مثل جون بيري وبيتر ستراوسون وديفيد كابلان وجاريث إيفانز وجون ماكدويل.
الأخلاق العسكرية:
كان أول منشور فلسفي للفيلسوفة إليزابيث أنسكومب عن أخلاقها العسكريةالسياسية هو عبارة عن كتيب شاركت في تأليفه (مع نورمان دانيال)، احتجاجًا على احتمالية اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، فمن وجهة نظرها كان من المحتمل خوض هذه الحرب لأسباب غير عادلة وبوسائل غير عادلة.
وفقًا لتفسيرها للقواعد وتصريحات السياسيين المعنيين ستنتهك الحكومة البريطانية القواعد التقليدية للحرب إذا دخلت في حرب مع ألمانيا، ولم يكن هذا بالطبع انعكاسًا لموقف أنسكومب تجاه ألمانيا النازية، فقد كان من الممكن تبرير بعض الحرب ضد هذا البلد ولكن ليس الحرب التي رأت أنّها قادمة على سبيل المثال بهجماتها على المدنيين.
واصلت دعمها للتفكير المسيحي التقليدي حول الأخلاق العسكرية بعد انتهاء الحرب، وعلى وجه الخصوص قادت الاحتجاج على قرار جامعة أكسفورد بمنح درجة فخرية للرجل الذي أمر باستخدام الأسلحة الذرية ضد اليابان وهو الرئيس هاري ترومان، ففي مقالتها عن الحرب والقتل تدافع عن ما يسمى بعقيدة التأثير المزدوج وترفض النزعة السلمية، على الرغم من وجود معايير عالية لدرجة أنّها عارضت حتى الحرب البريطانية ضد النازيين.
إلّا أنّ أنسكومب لم تصل إلى حد السلم الشامل لأنّها تعتقد أنّ المعايير الأخلاقية يجب أن تكون عالية ولكن ليست عالية جدًا، حيث تدعو المسالمة إلى عدم استخدام العنف على الإطلاق بغض النظر عن السبب، وهو مثال يمكن أن يزعم الكثير من الناس أنّه يحترمه ولكن قلة قليلة منهم يمكنهم التعايش معه، والنتيجة هي أنّهم يتشدقون بالكلام لمثل السلام، ويذهبون إلى الحرب على أي حال ثم لا يرون أي سبب لمراقبة أي قيود مهما كانت على كيفية خوض الحرب، وبهذه الطريقة فإنّ المسالمة تضر في الواقع.
يشير مبدأ التأثير المزدوج إلى أنّه يمكن اعتبار الإجراءات ذات نوعين من التأثيرات المتوقعة وهما: المقصود وغير المقصود (مجرد متوقع)، حيث إنّه يسمح بالأفعال التي لها آثار سيئة متوقعة طالما لم تكن مقصودة وطالما أنّ الإجراءات نفسها ليست ممنوعة، وطالما أنّ النتائج الجيدة المحتملة للفعل تفوق عواقبه السيئة المحتملة، وفي أي حرب يمكننا أن نتوقع مقتل أبرياء في حالات النيران الصديقة والأضرار الجانبية على سبيل المثال.
وكثيرا ما يعتبر قتل الأبرياء محرمًا، وتجادل أنسكومب بأنّه لا يعني أننا يجب أن نكون مسالمين، وإنّ التسبب في بعض الأضرار الجانبية لا يجعل المرء قاتلاً طالما أنّه يخوض حرباً عادلة، ويقاتل بشكل عادل ويستهدف (عمداً) أهدافاً عسكرية مشروعة فقط ولا يشن هجمات يرجح أن تكون آثارها أكثر سوءاً من نفعها.
يعترض منتقدو العقيدة أحيانًا على أنّه يمكن للمرء أن يقوم بعمل محظور بطريقة أخرى على ما يرام بمجرد إعادة وصفه في ذهنه، على سبيل المثال قد يدعي المرء أنّه ينوي خفض معنويات العدو من خلال تدمير مدينة ومجرد توقع مقتل الأبرياء في المدينة، فالشيء الوحيد الذي يتجاهله هذا، مع ذلك هو أنّ النية ليست فعلًا عقليًا مثل نوع من الهمس تحت أنفاس المرء، وفي الظروف العادية يفعل المرء ما ينوي وبالتالي يمكن ملاحظة النية في العالم المادي.
يمكن للحكام استدعاء الأخطاء المتعمدة دون الحاجة إلى قراءة الأفكار، حيث إنّ قول: “عفوًا” أو: “أعتقد أنني سأقوم بمد ساقي فقط” في عقل المرء أثناء قيام أحدهم برحلات أحد الخصم لا يجعل الخطأ أقل تعمدًا، ولذلك يبدو أن هذا النقد مضلل، مع ذلك تلاحظ أنسكومب أنّ بعض الناس يحاولون إساءة استخدام العقيدة من خلال معالجة النية بهذا النوع من الطرق المضللة.
ربما يكون الأمر الأكثر خطورة هو اعتراض جوناثان جلوفر بأنّ تفجير عبّارة ركاب متجهة إلى الأراضي التي احتلها النازيون مع الأبرياء، ووسائل صنع قنبلة ذرية يجب أن يُحسب على أنّه قتل متعمد وبالتالي ممنوع، على الرغم من عواقب قد يكون السماح للعبّارة بالوصول إلى وجهتها كارثيًا، كما إنّ إغراء التفكير بالعواقبية في مثل هذه الحالات قوي إلى حد ما.
قد ترد أنسكومب مع ذلك بأنّ الهدف الفعلي في هذه الحالة هو منع النازيين من حيازة أسلحة ذرية، لذا فإنّ وفاة الركاب على الرغم من توقعها بالتأكيد ليست في الحقيقة ما هو مقصود، ومن ثم فإنّ غرق العبارة قد يكون جائزًا بعد كل شيء، على عكس حالة التفجير الإرهابي حيث لم يكن الإرهاب المنشود ينشأ بدون موت أبرياء، وكان من الممكن غرق العبارة دون فقدان حياة الأبرياء (إذا لم يكن أحد على ظهرها).