فلسفة السياسة في روما واليونان القديمة

اقرأ في هذا المقال


الفلسفة السياسية هي المفهوم الذي من خلاله يتبنى فرد أو مجموعة من الناس وجهات نظر محددة فيما يتعلق بواجبات الحكومة والطريقة التي تتفاعل بها مع سكان أمة أو دولة أو منطقة محلية، ومن القضايا الرئيسية التي تتناولها الفلسفة السياسية هي حقوق الأفراد والمخاوف القانونية وحقوق الملكية وغيرها من المفاهيم، بينما الأسئلة الفلسفية الأساسية تتعلق مباشرة بالمفهوم حيث المبادئ يمكن أن تخلق اضطرابات اجتماعية في شكل ثورات أو تمردات، ويمكن أن ينبع هذا من أفكار بسيطة يتم تناولها في الأعمال الأدبية أو الأحداث الكبرى مثل الهجمات الإرهابية أو استشهاد المناضلين من أجل الحرية.

شيشرون Cicero والرواقيون:

كان كل من أفلاطون وأرسطو يفكران من منظور دولة المدينة، ولكن تلميذ أرسطو الإسكندر الأكبر أغرق مدن اليونان القديمة وأدخلها في إمبراطورية شاسعة شملت مصر وبلاد فارس والشام، على الرغم من أنّ دول المدن ظلت مركز حضارة العصور القديمة إلّا أنّها أصبحت جزءًا من قوة إمبريالية انقسمت إلى ممالك تحت قيادة خلفاء الإسكندر.

وتم إعادة تأكيد هذه القوة الإمبراطورية على نطاق أوسع من قبل روما التي وصلت إمبراطوريتها في أقصى حد من وسط اسكتلندا إلى نهر الفرات ومن إسبانيا إلى شرق الأناضول، وأصبحت الحضارة نفسها مرتبطة بالإمبراطورية وكان تطور أوروبا الشرقية والغربية مشروطًا بها.

ونظرًا لأنّ دولة المدينة لم تعد مكتفية ذاتيًا فقد تطورت الفلسفات العالمية التي أعطت الناس شيئًا للعيش به في عالم أوسع، ومن بين هذه الفلسفات كانت الرواقية والأبيقورية هي الأكثر تأثيرًا، وألهم الأول اكتفاءً ذاتيًا قاتمًا وشعورًا بالواجب كما يتضح من كتابات الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، أما هذا الأخير يعد انسحاب حكيم من عالم الشؤون.

وهكذا أصبح وضع الفلسفة السياسية أكثر اتساعًا حيث ربط الأفراد بإمبراطورية عالمية، ويُعتقد كما في الصين على أنّها مرتبطة بالحضارة نفسها، وظل إلهامها يونانيًا لكن الفلاسفة الرومان المشتقون أعادوا تفسيرها، وأرفق المشرعون الرومانيون المفاهيم القديمة للعدالة السياسية في درع من التعريفات القانونية والقادرة على النجاة من تدهور حضارتهم.

عاش شيشرون خلال القرن الأول قبل الميلاد، وهو وقت من الارتباك السياسي كانت فيه المؤسسات القديمة للجمهورية تنهار قبل الديكتاتوريين العسكريين، حيث إنّ كتابه (الجمهورية – De Republica) و (القانون – De legibus) (القوانين) عبارة عن حوارات وتعكس الإحساس الكلاسيكي بالهدف، أي: “جعل الحياة البشرية أفضل بفكرنا وجهدنا”.

عرّف شيشرون الجمهورية بأنّها جمعية يجمعها القانون وكان قد أكد على ذلك، كما حافظ أفلاطون مع مذهبه عن الأشكال، وأنّ الحكومة تمت الموافقة عليها من خلال قانون طبيعي عالمي يعكس النظام الكوني، ويعبر شيشرون عن محاولة رواقية ما قبل المسيحية لإضفاء أخلاقية على السلطة العامة والتي تظهر بالمعنى الدقيق للمسؤولية العامة التي أظهرها الأباطرة هادريان وماركوس أوريليوس في القرن الثاني الميلادي.

القديس أغسطينوس:

عندما أصبحت المسيحية العقيدة السائدة للإمبراطورية تحت حكم قسطنطين، وحينما أصبح الدين الرسمي الوحيد تحت حكم ثيودوسيوس (379-395) تغيرت الفلسفة السياسية بشكل عميق، حيث مدينة القديس أوغسطين الله (413-426 / 427) التي كتبت عندما كانت الإمبراطورية تتعرض لهجوم القبائل الجرمانية، والذي يلخص ويعرّف تقسيمًا جديدًا بين الكنيسة والدولة ونزاعًا بين “المادة” و “الروح” الناتج عن الأصل الخطيئة وسقوط الإنسان من جنة عدن.

الفلسفة الغربية السياسية:

عندما حلت السلطة العلمانية محل السلطة الكنسية ومع تحول المصلحة المهيمنة للعصر من الدين إلى السياسة كان القديس أوغسطين الذي تعتبر اعترافاته (397) سجلاً لنوع جديد من الاستبطان يجمع بين ثنائية كلاسيكية وعبرية، حيث ورث من الرواقيين وفيرجيل إحساسًا صارمًا بالواجب، وورث من أفلاطون والأفلاطونيين الجدد ازدراءًا لأوهام الشهية، ومن التفسير البولسي والآبائي للمسيحية شعورًا بالصراع بين النور والظلام الذي يعكس العقائد الزرادشتية والمانوية الصادرة من إيران.

في هذا السياق تتضاءل المصالح الدنيوية والحكومة نفسها أمام أهمية الحصول على الخلاص والهروب من مصير محدد تنجيميًا ومن الشياطين التي تجسد الظلام، وتصبح الحياة مضاءة للأقلية المختارة من خلال توقع الخلاص الأبدي، أو بالنسبة لأولئك الذين ليس لديهم نعمة تذبل تحت وهج النيران الأبدية.

اعتبر القديس أغسطينوس أنّ الخلاص هو أمر مقدس وأنّ العملية الكونية تهدف إلى “جمع” المختارين لملء أماكن الملائكة الساقطة وبالتالي “الحفاظ على عدد السكان السماويين وربما زيادتهم” ويصبح دور الحكومة، وفي الواقع المجتمع نفسه خاضعًا لـ “الذراع العلمانية” وهي جزء من مدينة أرضية على عكس “مدينة الله”، وهنا وظيفة الحكومة هي الحفاظ على النظام في عالم شر في جوهره.

ونظرًا لأنّ المسيحية لعبت منذ فترة طويلة الدور الرئيسي في الدفاع عن قشرة الحضارة الحضرية غير المستقرة في العصور القديمة فإنّ هذا الادعاء ليس مفاجئًا، وقد كان قسطنطين جنديًا أدى إلى انهيار الحكومة والذي استمر مع ذلك في الغرب حتى تنازل الإمبراطور الغربي الأخير في عام 476، وعلى الرغم من أنّ الإمبراطورية في الشرق ستستمر بثروة كبيرة وقوة تتمحور حول العاصمة الجديدة القسطنطينية.

وهكذا لم يعد القديس أوغسطين يفترض كما فعل أفلاطون وأرسطو، حيث أنّه يمكن تحقيق حياة جيدة منسجمة ومكتفية ذاتيًا داخل دولة من مدينة منظمة بشكل صحيح، ولقد عرض فلسفته السياسية في دراما كونية وخارقة تعمل حتى النهاية.

وأصبحت المصالح والمرافق الطبيعية للحياة غير ذات أهمية أو مثيرة للاشمئزاز، والكنيسة المسيحية وحدها مارست سلطة روحية يمكن أن تجيز الحكومة، وهذه النظرة التي عززتها الأدبيات الآبائية الأخرى كانت ستهيمن لفترة طويلة على فكر العصور الوسطى لأنّه مع انحسار الحضارة في الغرب أصبحت الكنيسة بشكل كامل مستودع التعلم وبقايا الحياة الحضارية القديمة.


شارك المقالة: