قبل استشفاء أرسطو جلب بيتر أبيلارد التقليد اللاتيني الأصلي في الفلسفة إلى أعلى درجاته، وكانت عبقريته واضحة في كل ما فعله، ويمكن القول إنّه أعظم منطقي في العصور الوسطى وهو مشهور بنفس القدر كأول فيلسوف اسمي عظيم، حيث دافع عن استخدام العقل في مسائل الإيمان كأول من استخدم (علم اللاهوت) بمعناه الحديث.
فلسفة العقل بين أبيلارد وأرسطو:
تقدم الفلسفة الأرسطية للعقل تحليلين للقصد وهما النظرية المطابقة التي تنص على أننا نفكر في الشيء من خلال وجود شكله ذاته في العقل، ونظرية التشابه التي نقوم بها من خلال وجود صورة ذهنية في العقل تشبه بشكل طبيعي الموضوع، ولكن يرفض أبيلارد كل من هذه النظريات ويقترح بدلاً من ذلك نظرية ظرفية للفكر موضحًا أنّه لا يلزم اعتبار الصور الذهنية أو المحتويات العقلية مستقلة وجوديًا عن العقل، ويقدم شرحًا سياقيًا للقصد يعتمد على حساب لغوي للتمثيل العقلي ويتبنى مبدأ التركيب للتفاهمات.
يأخذ التحليل الأرسطي الأول الفهم على أنّه اكتساب العقل لشكل الشيء الذي يُفهم بدون مادته، ولكي يكون الفهم حول شيء ما لنقل قطة هو أن يكون شكل القطة في العقل أو الروح الفكرية، وإنّ وراثة الشكل في المادة تجعل الأمر شيئًا من نوع معين بحيث ينتج عن وراثة الشكل في المادة قطة فعلية، في حين أنّ الوراثة (غير المادية) للشكل القطة في العقل يحول العقل في فهم القطة أي يصبح العقل (رسميًا) متطابقًا مع موضوعه.
نظرًا لأنّ كلمة (حول) الفهم يتم تحليلها على أنّها شيوع أو هوية الشكل في الفهم والشيء المفهوم، فيمكننا أن نطلق على هذا النهج نظرية التوافق في الفهم، وتلتقط هذه النظرية الحدس القائل بأنّ الفهم بطريقة ما يرث أو يتضمن خصائص ما هو مفهوم عن طريق تقليل نية الفهم إلى الهوية الموضوعية للشكل في العقل والشكل في العالم.
يأخذ التحليل الأرسطي الثاني الفهم على أنّه امتلاك العقل لمفهوم يشبه بشكل طبيعي أو مشابه بشكل طبيعي لمفهومه، ولكي يكون الفهم حول شيء ما مثل القط هو أن يكون هناك مفهوم حاضر في العقل يمثل تشابهًا طبيعيًا للقط، والدافع وراء تسمية التشابه (طبيعي) هو ضمان أنّ التشابه بين الفهم والمفهوم موضوعي، وأنّ جميع الأشخاص لديهم إمكانية الوصول إلى نفس مخزون المفاهيم.
تقوم نظرية المطابقة بذلك من خلال افتراض الوجود الموضوعي للأشكال في الأشياء وبواسطة عملية مماثلة في جميع الأشخاص الذين يستوعبون الأشكال أو يكتسبونها، وقد يطلق على هذا النهج نظرية التشابه في الفهم: أي تصنف الأفعال العقلية وفقًا لدرجة التشابه المتميزة ونوع التشابه بين الأشياء المفهومة.
تواجه نظرية التشابه مشاكل معروفة في توضيح محتوى التشابه أو التماثل، على سبيل المثال من الواضح أنّ المفهوم غير مادي وعلى هذا النحو يختلف جذريًا عن أي كائن مادي، وعلاوة على ذلك يبدو أنّه لا توجد خاصية شكلية لفعل عقلي يمكن من خلاله أن يقال إنّه يشبه أي شيء آخر، وللتغلب على هذه الصعوبات دعا فلاسفة العصور الوسطى مثل التجريبيين البريطانيين بعد قرون إلى نوع معين من التشابه وهو التشابه التصويري.
تدور صورة لسقراط حول سقراط من حيث التشابه البصري مع سقراط بالطرق الصحيحة، ومثلما توجد صور مصورة تتعلق بموضوعاتهم فهناك أيضًا صور ذهنية تتعلق بالأشياء، وهذه الصور الذهنية سواء كانت مفاهيم أو مضمنة في المفاهيم تشرح الطريقة التي يكون بها المفهوم (حول) كائن، ولفهم أن يكون حول قطة هو أن تكون أو تحتوي على صورة ذهنية للقط، ويتم تفسير ظاهرة (التآلف) الذهني من خلال الحالة الأكثر شيوعًا للصورة، والتي تم اختزالها في حد ذاتها إلى علاقة تشابه حقيقية.
على الرغم من تراثهم الأرسطي المشترك فإنّ نظرية المطابقة ونظرية التشابه ليستا متكافئتين، وإنّ تحول العقل من خلال وراثة الشكل ليس بالضرورة هو نفسه امتلاك العقل لمفهوم ما، وبالمثل لا يلزم فهم التشابه الطبيعي أو التشابه على أنّه هوية للشكل، ولا يجب أن تنطوي الهوية الشكلية على تشابه حقيقي بسبب الموضوعات المختلفة التي يتجسد فيها الشكل.
الطريقة القياسية للتوفيق بين نظرية المطابقة ونظرية التشابه هي اعتبار امتلاك العقل للمفهوم هو قدرته على تحويل نفسه من خلال وراثة الشكل، وتفسير الهوية الرسمية على أنّها تشابه طبيعي، حيث يكون وجود شكل في العقل يتطابق مع شكل الكائن المفهوم فقط هو الحصول على صورة ذهنية لهذا الشيء بالذات.
أبيلارد ونظرية المطابقة:
يجادل أبيلارد ضد المطابقة وذلك بأخذ بعين الاعتبار برجًا وهو جسم مادي بطول وعمق وارتفاع معينين، ويفترض أنّ هذه السمات تؤلف شكله بقدر ما يكون شكل التمثال هو شكله، ووفقًا للميتافيزيقيا الأرسطية فإنّ وراثة الشكل في الذات تجعل الذات شيئًا يتميز بهذا الشكل، كما أنّ البياض الموروث في سقراط يجعله شيئًا أبيض، وبالمثل فإنّ أشكال البرج تجعل الشكل الذي توجد فيه مرتفعًا وواسعًا وضخمًا وكلها خصائص فيزيائية.
إذا كانت هذه الأشكال موجودة في العقل فيجب أن تجعل العقل طويلًا وواسعًا وضخمًا وهذا استنتاجًا سخيفًا، فالعقل لا يستطيع أن يوسع نفسه في الطول أو العرض، ومع ذلك فمن الأطروحة الأساسية لنظرية المطابقة أنّ العقل له الشكل المتطابق الذي يمتلكه الكائن الخارجي البرج، على الرغم من أنّ شكل الطول مثلًا هو بطبيعته ماديًا، وهكذا يستنتج أبيلارد أنّ نظرية المطابقة غير متماسكة.
اعتراض أبيلارد الرئيسي على نظرية التشابه هو أنّ الصور الذهنية مثلها مثل أي علامة خاملة فهي تتطلب تفسيرًا، والعلامة هي مجرد كائن ويمكن أن يؤخذ في دور مهم على الرغم من أنّه لا داعي لأن يكون كذلك، ويلاحظ أبيلارد أنّ هذا التمييز ينطبق بالتساوي على العلامات غير العقلية، ويمكننا التعامل مع التمثال على أنّه كتلة من البرونز أو كمثال، كما أنّ الصور الذهنية خاملة ولكي تعمل الإشارة بشكل كبير إذن هناك حاجة إلى شيء أكثر من مجرد وجودها.
لكن نظرية التشابه لا تعترف بالحاجة إلى تفسير الصورة الذهنية على أنّها صورة، وبالتالي تحدد الفهم عن طريق الخطأ بمجرد وجود صورة ذهنية في العقل، ويخلص أبيلارد إلى أنّ الصور الذهنية لها دور فعال فقط في الفكر واصفًا إياها بأنّها: “علامات وسيطة للأشياء”، وتنبع القصدية بدلاً من ذلك من فعل الانتباه (attentio) الموجه إلى الصورة الذهنية.
تم العثور على دليل في حقيقة أنّه يمكننا تغيير الفهم ببساطة من خلال الاهتمام بميزات مختلفة للصورة الذهنية، أي يمكن استخدام الصورة نفسها -لنقل شجرة تين- للتفكير في شجرة التين هذه، أو الأشجار في الحياة العامة أو الحياة النباتية أو حبي الضائع الذي جلست تحته أو أي شيء على الإطلاق، فلا توجد ميزة جوهرية للصورة الذهنية التي تتعلق بشيء معين.
يلاحظ أبيلارد أنّه إذا كان هناك شيء فيمكننا أن نحدد بالتفتيش ما هي اللافتة لكننا لا نستطيع ذلك، لذلك لا يمكن للصور العقلية أن تفسر نية الفهم لأنّ دورها مجرد وسيلة، ونفكر معهم ولا نستطيع تجنبهم لكنهم لا يفسرون القصد.
يستنتج أبيلارد أنّ القصدية هي سمة بدائية وغير قابلة للاختزال للعقل وأفعالنا في الاهتمام بالأشياء، وتختلف أفعال الانتباه المختلفة جوهريًا عن بعضها البعض، حيث إنّهم يدورون حول ما يدورون حوله بحكم كونهم نوع الاهتمام الذي هم عليه، ومن ثم يتبنى أبيلارد ما يسمى في الوقت الحاضر نظرية الظرف في الفكر.
بالنظر إلى أنّ القصدية بدائية يتبنى أبيلارد نهجًا سياقيًا للمحتوى العقلي، فهو يدمج أعمال الانتباه غير القابلة للاختزال هذه في بنية يساعد التعبير عنها في تحديد طبيعة العناصر المكونة لها، فالهيكل الذي يقدمه أبيلارد هو لغوي ومنطق الأفعال العقلية، أي مثلما يمكن أن يقال عن الكلمات للتعبير عن الأفكار كذلك يمكننا أيضًا استخدام المنطق المفصلي للغة لإعطاء نظرية عن الفهم.
باختصار يقدم أبيلارد شيئًا يشبه إلى حد بعيد حسابًا لغويًا للتمثيل العقلي أو القصد، وتحقيقا لهذه الغاية يتبنى مبدأ التركيب مؤكدًا أنّ ما يدور حوله الفهم هو وظيفة لما تدور حوله مفاهيمه المكونة، وإنّ وحدة فهم المركب هي دالة لبساطته المنطقية، والتي تتميز بوجود ما يسميه أبيلارد (ارتباط واحد مهيمن)، أي المشغل المنطقي ذي النطاق الأكبر.
ومن ثم يمكن التعامل مع فهم المعقّد على أنّه مجموعة معقدة من المفاهيم المتميزة ومجمعة في نفس الفكر، مع هيكلها (المنطقي) الذي يتدفق من (الارتباط السائد) على العمليات المنطقية الأخرى التي تحكم المفاهيم المكونة له، وبالتالي فإنّ أفعال اهتمام أبيلارد تعرض البنية المنطقية للفهم الذي تعبر عنه، وبالتالي تعطي دلالات اللغة المكتوبة أو المنطوقة، ويتم إعطاء الكثير من كتابات أبيلارد حول المنطق والجدلية للعمل على التفاصيل كمخطط لتفسير المحتوى العقلي.