فلسفة القانون في العصر الحديث المبكر

اقرأ في هذا المقال


العصر الحديث المبكر أي في الفترة ما بين الأعوام 1600-1800، والذي حمل في طياته العديد من النظريات ومنها: نظريات القيادة والقانون العام للقانون ونظرية الأمر في القانون ونظرية القانون العام وغيرها من النظريات والقضايا، ويعد توماس هوبز صاحب المقولة المشهورة “حرب الجميع ضد الجميع” من أبرز فلاسفة القانون في العصر الحديث المبكر.

نظريات القيادة والقانون العام للقانون:

من أواخر عصر النهضة الأوروبية إلى نهاية القرن الثامن عشر نمت المناقشات الفلسفية حول طبيعة القانون وتنوعت إلى حد كبير، وشارك فيها منظرين من إنجلترا وعبر أوروبا القارية، وكان هناك تطوران مواضيعيان رئيسيان خلال تلك الفترة:

  1. الأول كان تطوير وجهة النظر التي تم التعبير عنها لأول مرة في اليونان القديمة وطورها الأكويني إلى حد ما، بحيث يجب فهم هذا القانون على نموذج أمر يُعطى من قبل أعلى إلى أدنى وإصداره جعل بعض الإجراءات إلزامية المرسل إليه العقلاني (والموضوع المفترض).
  2. ثانيًا بدءًا من عشرينيات القرن السادس عشر، ظهر في إنجلترا دفاع متطور بشكل متزايد عن الفكرة القائلة بأنّ العرف في أساس القانون يتجسد في القانون العام في إنجلترا، وكان لهؤلاء “منظري القانون العام” تأثير دائم على فلسفة القانون الغربية حتى يومنا هذا.

نظرية الأمر في القانون:

أولاً فيما يتعلق بتطوير نظرية القيادة في القانون فقد طور فلاسفة مثل هوغو غروتيوس (1583-1645) وفرانسيسكو سواريز (1548-1617) وصموئيل والبارون فون بوفيندورف (1632-1694) نظريات حول ماهية الأشخاص، من حيث كيف يجب أن تكون الأشخاص حتى تكون قادرة على فرض وإخضاع نفسها للقانون.

وعلى الرغم من وجود اختلافات بين هؤلاء المنظرين إلّا أنّهم يشتركون في بعض الافتراضات المشتركة، وتم الاتفاق على سبيل المثال على أنّ القانون موجه للكائنات الحرة الذكية وذاتية التوجيه التي لديها القدرة على الاختيار من بين مجموعة من الإجراءات المتاحة، وبعبارة أخرى تمتلك هذه الكائنات القدرة على الاعتراف بالقانون كنوع من الأوامر الموجهة إليهم لفهم هذه الحقيقة كسبب للتصرف (أو على الأقل للتداول) بطرق معينة، ومن ثم التصرف فعليًا على أساس هذا الاعتراف والمداولات، وعلاوة على ذلك اتفق هؤلاء الفلاسفة على أنّ محتوى القانون يتحدد بمحتوى إرادة “القائد” أو المشرع.

كما أنّ إنشاء القانون تضمن بعض عمليات إرادة شخص ما ساعد أيضًا في شرح كيف دفع القانون رعاياه للتصرف وفقًا لذلك، وكان المشرع كقائد يهدف من خلال سن القوانين إلى إنتاج سلوك من النوع الذي ينعكس في محتوى القانون والذي يتطلب تشغيل إرادة الموضوع من النوع الذي تم وصفه للتو.

ومثلما يمكن للمرء أن يتحدث مجازيًا عن وجود “اجتماع للعقول” في سياق التوصل إلى اتفاق، اعتقد هؤلاء المنظرون أنّه يجب أن يكون هناك “اجتماع للإرادات” من أجل أن يوجه القانون السلوك بنجاح، وقد قال سواريز على سبيل المثال إنّ إرادة موضوع قانوني يجب أن “تتلامس مباشرة” مع إرادة المشرع، وبالمثل قال بوفندورف إنّ محتوى القانون يجب “غرسه في عقل الشخص المعني” من أجل تحفيز الشخص على التصرف وفقًا لذلك.

كل هذه الافتراضات دعمت وشكلت وجهة النظر العامة القائلة بأنّ السمة الأساسية للقانون هي لعب دور عقلاني ولكنه حاسم في التفكير العملي لموضوعاته أي في تفكيرهم حول ما يجب عليهم فعله، وستتمتع وجهة النظر هذه بعودة الظهور بين فلاسفة القانون في أواخر القرن العشرين.

نظرية القانون العام:

كان التطور الرئيسي الآخر في تلك الفترة هو الظهور في إنجلترا في أوائل القرن السابع عشر لمجموعة من المحامين والقضاة الذين رأوا أنّ جميع القوانين إما معادلة للقانون العام أو مشتقة منه والتي وصفوها بأنّها “عرف قديم”، ومن بين أولئك الذين قدموا مساهمات مهمة في هذه النظرية العامة السير إدوارد كوك (1552-1634) والسير ماثيو هيل (1609-1676) والسير ويليام بلاكستون (1723-1780) لاحقًا.

فالقوانين جزء من القانون العام فقط، إذاً كما قال هيل “اكتسبت قوتها الملزمة وقوة القوانين من خلال استخدام طويل وسحيق.” إنّ حقيقة استخدام المجتمع لحكم ما لسنوات أو قرون هي ما يضفي على هذا الحكم السلطة والشرعية، وإنّ ممارسات المجتمع التي تمتد لفترة أطول من أي شخص في وقت معين يمكن أن يتذكرها (“الوقت الذي يفقد فيه العقل”) تعني وتعزز اعتراف المجتمع وإحساسه بأنّ هذه الممارسات معقولة ويجب اتباعها.

ومع ذلك كانت الطبيعة والدور الدقيق لتاريخ الممارسة هذا موضوعًا لبعض الجدل، حيث رأى كوك أنّ قانون إنجلترا لم يتغير في الواقع من حيث الجوهر منذ العصر السكسوني أو حتى الروماني وأنّ مثل هذا التاريخ الرائع شكل أساس شرعية القانون الإنجليزي في عصره، ووجد هيل هذا الادعاء مشكوكًا فيه ورأى أنّ قانون الحاضر لا يجب أن يكون مطابقًا لقانون الماضي بل يجب أن يستمر فقط معه، وما هو أساسي بدلاً من ذلك هو الشعور المستمر بين أفراد المجتمع بأنّ القانون الحالي معقول ومناسب لظروفهم.

كانت نظرية القانون العام خروجًا مهمًا عن نموذج القيادة للقانون، وذلك في المقام الأول لأنّها ابتعدت عن النظام الأساسي كنموذج وركزت بدلاً من ذلك على شرح عمل المحاكم وعلاقتها بالمجتمع الأكبر، ولذلك حظيت أنشطة القضاة والمحامين الممارسين ولأول مرة بمكانة بارزة في بناء نظرية فلسفية للقانون، سيصبح هذا النهج العام سائدًا طوال القرن العشرين.

كجزء من فلسفتهم في القانون قدم منظرو القانون العام ما يسمى الآن بنظرية الحكم أي نظرية لما يفعله القضاة وما يجب عليهم فعله، ونظرًا لأنّ جوهر القانون العام كان العرف السحيق الذي تجاوز معتقدات أو مواقف أي فرد بمفرده، لم يكن القاضي ولا يمكنه التصرف كمشرع عند تسوية النزاعات بين المواطنين، وبدلاً من ذلك اكتشف القاضي أو ميّز القانون العام من القضايا والأطروحات والتجارب العامة السابقة ذات الصلة.

إدوارد كوك وفلسفته في القانون:

قال كوك الشهير: “Judex est lex loquens” ( والتي تعني حرفيا “القاضي هو المتحدث بالقانون”)، والذي كان يقصد به أنّ القاضي هو نوع من الخبراء في إعلان القانون الموجود مسبقًا في المجتمع، فالقاضي هو “الوحي الحي” للقانون، ولكنه فقط لسان حاله وليس مصدره.

يشير ادعاء كوك Coke أيضًا إلى أنّه مع كل قرار قضائي جديد يستند إلى أسباب القضايا السابقة، وبقدر ما ينبغي التعامل مع القضايا المماثلة على حد سواء فإنّ القضية الجديدة نفسها وليس القاضي هو الذي يوسع القانون، وقد تم شرح الخبرة ذات الصلة للقضاة (والمحامين الذين جادلوا أمامهم) من قبل Coke من حيث “السبب الاصطناعي”، وهي قدرة فكرية خاصة للمهنيين القانونيين لتجميع عادات المجتمع في مجموعة متماسكة من مبادئ القانون العام المستخدمة للحكم على القضايا، وقال كوك: “العقل هو حياة القانون، والقانون هو فعل يتطلب دراسة وخبرة طويلة قبل أن يتمكن الرجل من إدراكه”.

في حين أنّ أول منظري القانون العام كانوا ضيقي الأفق إلى حد ما في تطلعاتهم، وسعوا إلى شرح الأساس النهائي لقانون إنجلترا، والذي زادت أهميتهم بشكل كبير منذ منتصف القرن العشرين نظرًا لأنّ القوة السياسية والاقتصادية لبلدان القانون العام مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قد ازدادت على المستوى الدولي، فقد ازداد تأثير أنظمتها القانونية والنظريات القانونية التي تبررها وتفسرها، وعلاوة على ذلك تطور القانون الدولي نفسه بشكل كبير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولطالما اعتُبر العرف أحد مصادره المشروعة.

توماس هوبز:

كان توماس هوبز (1588–1679) من بين أكثر فلاسفة القانون تأثيرًا في الفترة الحديثة المبكرة، والذي كانت نظريته في القانون عبارة عن مزيج جديد من الموضوعات من كل من تقاليد القانون الطبيعي ونظرية الأوامر، كما قدم بعض الانتقادات المبكرة لنظرية القانون العام والتي طورها المنظرون بشكل كبير في القرن الثامن عشر.

بالنسبة لهوبز كان القانون الأداة الأساسية للسيادة التي من خلالها تخدم أهداف الحكومة والتي كانت أساسًا السلام والأمن الشخصي لجميع مواطنيها، وكتب أثناء الحروب الأهلية الإنجليزية وبعدها (1642-1651)، وطور فكرة أنّ الحكومة التي تحكم بفعالية بالقانون هي الحصن الوحيد ضد الفوضى أو كما وصفها بمقولته الشهيرة “حرب الجميع ضد الجميع”.

تعتبر فلسفة القانون عند هوبز جزئيًا تفسيرًا لما يجب أن يكون عليه القانون من أجل خدمة هذه الوظيفة، ويدين العديد من العلماء أنّ هوبز هو مؤسس الوضعية القانونية والنظرية الفلسفية السائدة في القانون منذ القرن السابع عشر، والتي تتمثل الأفكار الأساسية للوضعية القانونية في أنّ القانون هو في الأساس مسألة تتعلق بحقيقة اجتماعية وأنّه يحمل في أغلب الأحيان ارتباطًا عرضيًا بالمعايير الأخلاقية أي العديد من الأفعال المحظورة قانونًا (أو الموصوفة) يمكن مع ذلك أن تكون أخلاقية (أو غير أخلاقية).

وبقدر ما كانت هذه وجهة نظر هوبز فقد كان ذلك بسبب أنّه كان متمسكًا بنظرية الأمر في القانون التي نوقشت بالفعل في كتابه العظيم (Leviathan (1651، حيث كتب أنّ “القانون بشكل عام ليس مشورة، بل أمر” وأنّ القوانين المدنية (أي الوضعية) هي “تلك القواعد التي أمرت بها الثروة العامة بالكلمة والكتابة، أو أي علامة أخرى كافية على الإرادة “، وأنّ بعض الإجراءات يجب القيام بها أو عدم القيام بها نظرًا لأنّ القوانين هي “علامات إرادة” للملك فقد ركز هوبز بشكل خاص على شرط أن تكون تلك “الإشارات” عامة بما فيه الكفاية ومفهومة للمواطنين العاديين.

كان نقد هوبز الأساسي لنظرية القانون العام هو أنّ “العادات القديمة” للمجتمع التي يُزعم أنّها أسس القانون لا يمكن تمييزها دائمًا بسهولة وقد تكون في الواقع مثيرة للجدل بشدة، وبالتالي قد يفشل القانون العام بطبيعته في تقديم وجهات نظر موثوقة ونهائية لما يجب على رعاياه المفترضين القيام به.

على الرغم من وجود عناصر وضعية لا يمكن إنكارها في نظرية هوبز ففي افتراض وجود صلة مهمة بين القانون الطبيعي والقانون المدني (أي بين الأخلاق والقانون الوضعي) فقد استوحى أيضًا من تقاليد القانون الطبيعي، وادعى أنّ القانون الطبيعي والقانون المدني “يحتويان على بعضهما البعض ومتساوان في المدى”.

وما قصده هوبز بهذا الادعاء كان موضوع نقاش أكاديمي منذ ذلك الحين ويكفي أن نقول إنّه يعتقد أنّ هناك حدودًا أخلاقية متواضعة ولكنها حقيقية لما يمكن أن يطلبه صاحب السيادة بشكل شرعي من رعاياه، وعلى سبيل المثال القانون المفترض الذي يطالب الناس بالتصرف بطرق أدت إلى موتهم لن يكون قانونًا إيجابيًا صالحًا لأنّه ينتهك القانون الطبيعي للحفاظ على الذات والذي اعتقد هوبز أنّه أساس هدف الحكومة، وهكذا حاول هوبز توليف القانون الطبيعي وتقاليد الأوامر على الرغم من أنّ بعض العلماء يعتقدون أنّه كان بعيدًا عن النجاح.


شارك المقالة: