فلسفة بلانشوت في المجتمع والسياسة

اقرأ في هذا المقال


هناك عدة مراحل لانخراط الفيلسوف موريس بلانشوت في السياسة مما يجعل أي تغليف شامل لآرائه حول الموضوع شبه مستحيل، كما أنّ تفكيره في القضايا الرئيسية ذات الأهمية الفلسفية والأدبية يخضع للتغيير في أكثر من ستين عامًا من حياته المهنية ككاتب ناضج، وكذلك تتطور وجهات نظره حول السياسة بشكل كبير، كما أنّ تفكيره في القضايا الرئيسية ذات الأهمية الفلسفية والأدبية يخضع للتغيير في أكثر من ستين عامًا من حياته المهنية ككاتب ناضج، وكذلك تتطور وجهات نظره حول السياسة بشكل كبير.

فترة ثلاثينيات القرن الماضي:

يمكن للمرء أن يتعرف بسهولة على مرحلة سياسية مبكرة جدًا امتدت تقريبًا لعقد الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث ساهم بلانشوت خلالها بالعديد من المقالات في مجلات اليمين المتطرف الفرنسي، كما اعتنقت هذه المقالات خطابًا مناهضًا لهتلر بشدة وأخذت نظرة قاتمة على أي محاولات للتهدئة أو التسوية فيما يتعلق بالتهديد الألماني المتزايد.

لكن المشكلة هي أنّ الهدف المباشر لسخرية بلانشوت في هذه القطع كان غالبًا الحكومة الفرنسية البرلمانية مع ضعفها الملحوظ في مواجهة التهديد النازي، حيث أظهرت دعوة بلانشوت خلال هذه الفترة للإرهاب ضد الدولة الليبرالية كوسيلة للخلاص الوطني نزعة واضحة معادية للديمقراطية في تفكيره المبكر، وفي وقت لاحق من كتاباته جاء بلانشوت لمعالجة هذه الفترة من خلال عدسة النقد الذاتي مدعيًا أنّه على الرغم من مشاركته الشبابية في الأوساط القومية الفرنسية فقد رفض عن قصد الارتباط بعناصر معادية للسامية في أقصى اليمين.

فترة خمسينيات القرن الماضي لفلسفة بلانشوت:

بين بداية الحرب العالمية الثانية وعام 1957 اتخذ بلانشوت موقفًا غير سياسي إلى حد كبير حيث أمضى الكثير من الوقت في جنوب فرنسا وأنتج تدفقًا غزيرًا للغاية من النصوص الأدبية والمقالات النقدية، ومع عودته إلى باريس في عام 1957 عاد بلانشوت إلى مجال السياسة الوطنية، وسرعان ما طور صداقة وثيقة مع ديونيس ماسكولو الذي سيطلق في حزيران عام 1958 جريدة (Le 14 Juillet) جنبًا إلى جنب مع جان شوستر.

كانت الورقة موجهة حول مقاومة عودة الجنرال ديجول إلى السلطة، واختار بلانشوت كتابة مقالتين مهمتين للنشر،كوان من الأمور المركزية في معارضة بلانشوت للنظام رفضه الشديد لمطالبة ديجول بتجسيد المصير الوطني الفرنسي، حيث رأى بلانشوت أنّ لجوء ديجول إلى خطاب الخلاص القومي والسياسة شبه الدينية هو انحراف عن النظام الأعلى.

وهذا الانحراف بحسب بلانشوت يتطلب معارضة شديدة ورفضًا قاطعًا، وبحلول عام 1958 يمكن للمرء أن يرى بلانشوت يرفض بشكل صريح وقوي نوع السياسة (القائمة على القوة العسكرية والوطنية والخلاص الوطني) التي دافع عنها كصحفي شاب في الثلاثينيات.

فترة ستينيات القرن الماضي:

إذا كان هناك أي شيء فإنّ سياسات بلانشوت في السنوات التي أعقبت تعاونه الأولي مع ورقة ماسكولو نمت أكثر تقدمية وأكثر راديكالية، ففي أيلول عام 1960 عندما تمت محاكمة أربعة وعشرين معارضًا فرنسيًا وجزائريًا بتهمة تخريب الجهود الاستعمارية الفرنسية في الجزائر كان بلانشوت قوة دافعة وراء إنتاج ما يسمى (Manifeste de 121) وهو نص يؤيد حق الفرنسيين في رفض التجنيد في الصراع الجزائري، وأعرب عن دعمه لاستقلال الجزائر.

إلى جانب ماسكولو والعديد من الآخرين سعى بلانشوت بعد ذلك إلى توجيه جهوده بشأن (البيان) إلى مشروع أكثر طموحًا، وهو إنشاء مجلة دولية للنقد الكامل والتي من شأنها أن تمزج بين المناقشات السياسية والأدبية والعلمية، وسيتم نشر هذه المجلة الدولية بثلاث لغات (الفرنسية والألمانية والإيطالية) بتنسيق يتكون أساسًا من أجزاء، ولكن بحلول أوائل عام 1964 تم التخلي عن مشروع هذه المجلة التجريبية.

ومع ذلك فإنّ مشاركة بلانشوت في السياسة اليسارية لن تتضاءل، فخلال أحداث أيار عام 1968 أصبح بلانشوت عضوًا في (Comité d’action étudiants-écrivains) وهي مجموعة من الطلاب والكتاب الثوريين الذين حرضوا على الحكومة ورفضوا بشدة جميع أشكال السياسة التمثيلية المبنية على السعي وراء السلطة، وبصفته عضوًا في هذه المجموعة المتطرفة كتب بلانشوت بشكل مجهول العديد من النصوص لمجلته شبه السرية (Comité).

بحلول آذار عام 1969 كانت المجموعة قد بدأت في التفكك وتنصل بلانشوت نفسه من أي مشاركة أخرى فيها، وبسبب موقف المجموعة (الذي كان شائعًا في الدوائر اليسارية المتطرفة) ضد إسرائيل ومؤيدًا لفلسطين.

فترة ما بعد ستينيات من القرن الماضي:

وهكذا حمل بلانشوت معه في السبعينيات والثمانينيات وما بعدها أسلوبًا سياسيًا فريدًا إلى حد ما يجمع بين جوانب الراديكالية اليسارية، ومناصرة العدالة الاجتماعية (على سبيل المثال في كتاباته ضد الفصل العنصري لدعم سلمان رشدي ولاحقًا لصالح حقوق المثليين)، ودعمًا ثابتًا لدولة إسرائيل.

في الواقع فإنّ الذاكرة المستحيلة للمخيمات وعبء المسؤولية المرتبط بها، عاملان بشكل كبير في الأجزاء التي تشكلت لتشمل نصوص بلانشوت في: الخطوة التي لا تتجاوزها (The Step Not Beyond) وكتابة الكارثة (The Writing of the Disaster) بحيث تلوح المحرقة بشكل كبير هنا باعتبارها استفزازًا كارثيًا يجب أن يُحكم على جميع أشكال السياسة من حيث علاقته، مما يستدعي استجابة سياسية ترفض جميع أشكال الشمولية أو الكلية وتتطلب اهتمامًا غير محدود بالآخر.

بلانشوت والشيوعية:

يشير بلانشوت في بعض الأحيان إلى سياسة مثل الشيوعية، ومع ذلك فإنّ أي شكل من أشكال الشيوعية البلانشوتية يستبعد جميع أشكال المجتمع الموجود مسبقًا، ولن يكون لمثل هذه الشيوعية سابقة تاريخية أو نظرية، وستكون بالمعنى الدقيق للكلمة شيوعية المستقبل فقط، فشيوعية من شأنها أن ترفض جميع أشكال النظام المجتمعي القائم سابقًا.

كما يوحي أصل الكلمة هنا فإنّ إعادة التفكير في الشيوعية لا تنطوي على أقل من إعادة التفكير في معنى المجتمع نفسه، وهذا هو المشروع الذي شرع فيه بلانشوت المستوحى من أعمال فيليب لاكو لابارث وجان لوك نانسي في نصه عام 1983، المجتمع غير القابل للاستمرار (The Unavowable Community) والذي يشتمل على أحد المحاور الرئيسية لكتاباته اللاحقة.

بلانشوت ومناهضة القومية:

ترفض السياسات التي تم استحضارها في هذه الكتابات أي فكرة عن المجتمع تقوم على فكرة الاندماج أو الشركة أو القومية، وإنّهم يؤكدون بدلاً من ذلك على طلب مزدوج وهما:

1- أولاً التأكيد على ضرورة قطع وتمزيق في التطور الديالكتيكي للتاريخ السياسي، وهذا يشمل المشاركة السياسية الاستباقية والتحريض والدعوة.

2- ثانيًا على الرغم من هذا المطلب بإحداث انقطاع في سياسة الاحتمال من خلال التدخل الدنيوي الملموس، هناك مطلب الشهادة لمطلب غير محدود للعدالة يتجاوز كل الحسابات وكل الاحتمالات وكل الأعمال.

هذا المطلب الثاني هو ما يتطلب على وجه التحديد من المجتمع أن ينظر إلى ما وراء كل أشكال الهوية الذاتية أو الوجود الذاتي من أجل تحمل مسؤولية مستحيلة عن الآخر المجهول، دون تحديد الهوية وبدون الموارد الذي سيأتي دائمًا بعد، وهذا هو التحدي بقدر ما هو شاق وإلحاح ولا يمكن فصله عن فكر بلانشوت اللاحق.


شارك المقالة: