اقرأ في هذا المقال
إنّ اقتراب الفيلسوف والتر بنيامين من المغزى العرضي لـ (أزمة الفنون) ولـ (أزمة الخبرة) من خلال مفهوم تكنيك يشهد على الطابع الماركسي الأساسي لمفهومه للتطور التاريخي، وإنّ تطور قوى الإنتاج هو محرك التاريخ.
فلسفة بنيامين في التكنولوجيا:
مع ذلك لم يكن بنيامين أكثر تشددًا ماركسيًا بشأن التكنولوجيا مما كان عليه فيما يتعلق بمفهوم التقدم، والنسخة الماركسية التي أسسها الحزب الاشتراكي الديمقراطيالألماني (SPD – Social Democratic Party)، فلم يدرك فقط إمكانية حدوث حمام دم في تقنية خاضعة لـ (شهوة الربح) -التي ظهرت بشكل واضح في أهوال الحرب العالمية الأولى– ولكنه توصل إلى التمييز بين الأول وتقنية ثانية.
ويحتمل أن تكون متحررة تجعل الأخيرة استخدامًا عالي الإنتاجية للاغتراب الذاتي للإنسان، ويظهر في بعض الأماكن كأساس لنوع من السياسة العالمية التكنولوجية أو سياسة هيئة تكنويد جماعية جديدة (new collective technoid body)، حيث إنّ إتقان الطبيعة كما يعلم الإمبرياليون هو هدف كل تكنولوجيا (تكنيك)، ولكن التكنولوجيا ليست السيطرة على الطبيعة ولكن العلاقة بين الطبيعة والإنسانية، وفي التكنولوجيا يتم تنظيم (physis) من خلالها يتخذ اتصال الجنس البشري مع الكون شكلاً جديدًا ومختلفًا عما كان عليه في الأمم والشعوب (Völkern) والعائلات.
المجموعة هي جسد أيضًا، ويمكن أن يتم إنتاج (physis) -والتي تعني الحقيقي والواقعي والمتنامي والمحسوس على عكس من يفتقرون إلى الخبرة أو التجربة في الميتافيزيقيا– التي يتم تنظيمها من أجلها في التكنولوجيا، من خلال كل واقعها السياسي والواقعي فقط في مجال الصورة الذي يبدأنا فيه الإضاءة الدنيوية، وفقط عندما يتداخل الجسد والصورة في التكنولوجيا بحيث يصبح كل التوتر الثوري تعصيبًا جماعيًا جسديًا، وتصبح جميع الأعصاب الجسدية للجماعة إفرازات ثورية، يكون الواقع قد تجاوز نفسه إلى الحد الذي يطلبه البيان الشيوعي.
فلسفة بنيامين في الفن والتكنولوجيا:
تنقل هذه المقاطع المأخوذة من الأقسام الختامية لشارع أحادي الاتجاه ومقال السريالية على التوالي شيئًا من طابع النشوة لفكر بنيامين السياسي في بداية الثلاثينيات، كما تظهر التكنولوجيا على حافة الهاوية السياسية بين احتمالاتها كـ (صنم العذاب) و(مفتاح السعادة)، ويظهر الفن -فن الجماهير- ضمن هذا السيناريو كآلية تربوية يمكن من خلالها لجسد الجماعة أن يبدأ في ملاءمة إمكاناته التكنولوجية الخاصة.
سعت التكنولوجيا الأولى حقًا إلى إتقان الطبيعة، بينما تهدف الثانية -أي الفن- بدلاً من ذلك إلى التفاعل بين الطبيعة والإنسانية، فالوظيفة الاجتماعية الأساسية للفن اليوم هي التدرب على هذا التفاعل، وهذا ينطبق بشكل خاص على الفيلم، فوظيفة الفيلم هي تدريب البشر على الإدراك وردود الفعل اللازمة للتعامل مع جهاز ضخم يتوسع دوره في حياتهم بشكل شبه يومي، حيث إنّ التعامل مع هذا الجهاز يعلمهم أيضًا أنّ التكنولوجيا ستحررهم من استعبادهم لسلطات الجهاز، وفقط عندما يتكيف دستور البشرية بأكمله مع القوى الإنتاجية الجديدة التي حررتها التكنولوجيا الثانية.
في حاشيته على هذا المقطع من النسخة الثانية من (العمل الفني في عصر استنساخه التقني) (Das Kunstwerk im Zeitalter seiner technischen Reproduzierbarkeit)، يشير بنا بنيامين إلى (الكتائب) و(الذات)، وهي التجمعات الزراعية المحتوية على مثالية فورييه الاشتراكية (Fourier’s socialist utopia)، ففي فورييه الملتوية لمشروع الممرات تتم مقارنة هاتين المادتين بالمقالتين الرئيسيتين لسياسة بنيامين وهي (فكرة الثورة باعتبارها تعصيبًا للأعضاء التقنية للجماعة) وفكرة (فتح الغائية الطبيعية).
بالنسبة لبنيامين الفن على شكل فيلم -أي كشف (النتيجة) لجميع أشكال الإدراك والإيقاعات التي تكمن في آلات اليوم- لذلك كان لديه إمكانية أن يصبح نوعًا من بروفة الثورة، حيث أصّر بنيامين على أنّ كل مشاكل الفن المعاصر تجد صيغتها النهائية في سياق الفيلم فقط، وفي هذا الصدد كان الجمع بين علم أصول التدريس الشيوعي والأدوات البناءة لمسرح بريخت الملحمي هو ما ميّزه كمسرح لعصر السينما.
فلسفة بنيامين بين مفهوم الهالة والفن:
تشتهر كتابات بنيامين عن الفيلم بأطروحاتهما المزدوجة حول تحويل مفهوم الفن من خلال قابليته للتكرار التقني والإمكانيات الجديدة للتجربة الجماعية التي يتضمنها، ففي أعقاب الانحدار التاريخي لمفهوم (الهالة) في العمل الفني يتم تقديم هذا الفيلم على أنّه خاتمة نهائية، حيث انسكب الكثير من الحبر لمناقشة أطروحة تراجع الهالة في عمل بنيامين.
من ناحية فيما يتعلق ببعض كتاباته اتُهم مفهوم بنيامين عن الهالة بتعزيز الشعور بالحنين والسلبي البحت للحداثة باعتباره فقدانًا للوحدة مع الطبيعة وفي المجتمع، ومن ناحية أخرى في العمل على الفيلم يبدو أنّ بنيامين يتبنى الحداثة التكنولوجية الإيجابية التي تحتفل بعواقب الانحدار، فأدورنو على سبيل المثال شعر بالخيانة من الموقف الأخير.
في 18 مارس عام 1936 أوضح أدورنو بأنّ بنيامين في كتاباته السابقة ميّز فكرة العمل الفني كبنية عن رمز اللاهوت من ناحية ومن محرمات السحر من ناحية أخرى، وقد أشار أدورنو إلى أنه يجد هذه الفكرة مزعجة إلى حد ما، حيث هنا يستطيع أن يرى بقايا متسامية لبعض الموضوعات البريشتية، كما أنّه قام الآن بنقل مفهوم الهالة السحرية بشكل عرضي إلى عمل مستقل، وتخصيص وظيفة مضادة للثورة بشكل قاطع الأخير.
في غضون ذلك شعر بريخت نفسه بالذهول حتى من الوظيفة السلبية المتبقية للهالة، مسجلاً رده في كتابه: “كل التصوف تصوف وذلك في موقف معاد للتصوف، حيث إنّه مروع إلى حد ما”، ومع ذلك لم يدافع أدورنو عن الفن التشكيلي على هذا النحو، فقد استند دفاعه عن الفن المستقل إلى الخبرة المستمدة من متابعة التطور التقني (المستقل) لقوانين الشكل.
من الواضح أنّ مفهوم الهالة يلعب عددًا من الأدوار المختلفة في كتابات بنيامين، ففي محاولاته المختلفة لفهم حاضره التاريخي من حيث إمكانيات (التجربة) التي توفرها أشكالها الثقافية الجديدة، والتي بدأ يتعرف عليها بشكل متزايد (يقول البعض بشكل سريع) مع الإمكانات السياسية الثورية، ومع ذلك كان أدورنو مخطئًا عندما رأى تغييرًا بسيطًا في الموقف، بدلاً من سلسلة معقدة من التصريفات لما كان سردًا تاريخيًا متسقًا بشكل عام.
كتب بنيامين بشكل إيجابي عن (تحرير الشيء من الهالة) في وقت مبكر من عام 1931، ففي كتابه (تاريخ التصوير الصغير) حيث وصف صور أتجيت (Atget) بأنّها تمتص الهالة من الواقع مثل الماء من سفينة غارقة، وهنا نجد التعريف الأساسي للهالة بأنّه نسج غريب من المكان والزمان، أي المظهر الفريد أو ما يشبه المسافة بغض النظر عن مدى قربها، والأهم من ذلك أنّ الأمثلة الواردة بهذا التعريف مأخوذة من الطبيعة، أي من الجبال والغصن الذي تمت ملاحظته في حالة الراحة في ظهيرة الصيف حتى تصبح اللحظة أو الساعة جزءًا من مظهرها.
يتم الحكم على تدمير الهالة عن طريق الزوال وقابلية التكاثر على أنّها اغتراب مفيد، وبالمثل عندما يروي الحكواتي الموت بسبب فن رواية القصص والهالة التي لا تضاهى التي تحيط بالقصص، فإنّه مع ذلك يتم التأكيد بأنّ لا شيء يمكن أن يكون أكثر سخافة من الرغبة في رؤيته على أنّه مجرد من أعراض الاضمحلال ناهيك عن الأعراض الحديثة، وإنّه بالأحرى فقط مصاحب لقوى التاريخ العلمانية المنتجة.
تعمل مقالة عمل فني (The Work of Art) على توسيع وإثراء الحساب السابق للتحول التكنولوجي للتصوير الفوتوغرافي للإدراك (اللاوعي البصري) بالإشارة إلى الفيلم، ويكمن الاختلاف في البعد السياسي المُلح للمقال الأخير (بعد تولي هتلر السلطة في عام 1933)، وتصميمه على إدخال مفاهيم غير مجدية تمامًا لأغراض الفاشية، حيث كانت المشكلة الرئيسية مع الأوراتيك والتي تعتبر من الناحية التاريخية متبقية ولم يتم القضاء عليها بل ربما لا يمكن التخلص منها، وأنّها كما يعتقد بنيامين كانت مفيدة للفاشية.
يفرط هذا السياق في تحديد المقال بالكامل مع تناقضاته شبه المانوية بين الطقوس والسياسة وقيمة العبادة وقيمة العرض، وبصرف النظر عن التطورات التكنولوجية والاجتماعية المتداخلة فإنّه يجعل نصًا صعبًا للغاية لمجرد استخدامه اليوم، ومع ذلك فبالنسبة للبعض فإنّ الصلة التي تربطها بين نوع معين من الثقافة الجماهيرية والفاشية هي التي توفر ارتباطًا مستمرًا.