فلسفة بنيامين والنقد

اقرأ في هذا المقال


في رسالة إلى صديقه الفيلسوف الألماني الإسرائيلي غيرشوم شولم (Gershom Scholem) والذي أعرب الفيسلوف والتر بنيامين ذات مرة عن رغبته في أن يُعتبر (الناقد الأول للأدب الألماني)، حيث وفقًا للبعض لقد استوفى هذا الطموح بالفعل وإن كان ذلك بعد وفاته، ومع ذلك كان هناك الكثير من النقاش حول ما إذا كان يجب تصنيف بنيامين كفيلسوف، وليس بالأحرى ناقدًا أدبيًا أو مؤرخًا، وحتى يومنا هذا تتم قراءة عمله في دوائر الدراسات الأدبية والإعلامية والثقافية بدلاً من قراءة الفلسفة.

تأثير النقد في فكر بنيامين:

إنّ مفهوم الفيلسوف يوهان فولفغانغ فون جوتهللحكم الجمالي ومبدأه عن عدم القابلية للنقد للأعمال العظيمة قد زود بنيامين بطريقة تفكير التعديل الضروري لفكرة الفن الرومانسية الألمانية المبكرة، ويكشف شرحه للبنية الميتافيزيقية الضمنية لمثالية الفن المقابلة لجوته عن السمات المتناقضة لهيكله للمطلق: أي كمجال من المحتوى النقي ووسط من الانكسار المدمر ومجموعة من النماذج البدائية المتقطعة.

كما أنّه نظرًا لأنّ الأعمال المحدودة والمحددة لا يمكن أبدًا تحويلها إلى أعمال رومانسية في وحدة الفرد المطلق، فإنّها تظل غير مكتملة بشكل جوهري، ومع ذلك فهي غير قادرة على إنجاز أعلى: أي (الجذع) مقطوعًا بالنسبة إلى الكل مثل الجثة في موتها، وفي هذا السياق فإنّ المهمة الحقيقية للنقد لا تصبح إتمام العمل الحي ولكن ذلك الإكمال المدمر للعمل المحتضر.

تقدم مقالة بنيامين حول (الانجذاب الاختياري لجوته) قطعة نموذجية لمثل هذا النقد، مع تطوير المفهوم بشكل أكبر من خلال وضعه بشكل أكثر وضوحًا في سياق التاريخ، وهنا يتم تكليف النقد بمهمة الكشف عما يسميه بنيامين محتوى الحقيقة لعمل فني، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمحتوى المادي في بداية تاريخ العمل، وعلى النقيض من مجرد التعليق -الذي لا يتجاوز النظر في هذه السمات التي عفا عليها الزمن الآن لمحتواها المادي- فإنّ الهدف من النقد هو تدمير هذه الطبقة الخارجية من أجل فهم محتوى الحقيقة الداخلي للعمل.

كما إنّ الخطأ اللغوي الأساسي للتعليق هو مجرد تحديد موقع العمل فيما يتعلق بالتجربة الحية (Erlebnis) في السيرة الذاتية لمؤلفها، على سبيل المثال في سيرة فريدريش جوندولف لعام 1916 لجوته، بدلاً من الوسط الأوسع للاستقبال التاريخي الذي من خلاله انتقلت إلى الناقد المعاصر.

تصر نظرية بنيامين الرومانسية للنقد الجوهري على أنّ العمل يجب أن يحتوي على معياره الداخلي الخاص به، بحيث ينطلق الناقد من العمل نفسه وليس من حياة المؤلف، بداية من السمات الغريبة والملفتة للنظر لعمل جوته والتي أصبحت تشغل بال النقاد لاحقًا، حيث يبحث بنيامين في كيفية اشتقاقها من تقنيات مستعارة من الشكل المميز للرواية.

يمنح هذا البناء الشبيه بالرواية الارتباطات الاختيارية جودتها الغريبة التي تشبه الحكاية والتي تميزها عن طبيعية الرواية النموذجية، وهذه الطبقة الأسطورية باعتبارها المحتوى المادي الحقيقي للعمل، وهي التي تعبر عن وجود موقف وحدة الوجود وشيطاني تجاه الطبيعة في عمل جوته.

على النقيض من ذلك لا يجب البحث عن محتوى الحقيقة في السمات البارزة لتقنية العمل ولكن في وحدة شكله المتميز، فمهمة النقد هي جعل محتوى هذه الحقيقة موضوعًا للتجربة، فلا يتعلق الأمر بحياة الفنان أو نواياه، ولكن بمظهر أو مظهر الحياة الذي يمتلكه العمل نفسه بحكم قدرته المحاكية على التمثيل، بمعنى تعبيره اللغوي الذي يوصف بأنّه قريب ومتاخم للحياة، ومع ذلك فإنّ ما هو ضروري للفن وما يميزه عن مظهر الطبيعة هو بدون تعبير (Ausdruckslose)، أي ذلك العنف النقدي داخل العمل الفني الذي يوقف هذا المظهر ويفجر الحركة ويقطع الانسجام.

يجادل بنيامين أنّ فقط بدون تعبير يكمل العمل كعمل فني، وهو يفعل ذلك بتحطيم مظهر الوحدة في العمل والمظهر الخاطئ للكلية المتعلقة بها، على عكس تكثيف الانعكاس الرومانسي عندما يصبح هذا المظهر نفسه موضوعًا لمظهر أعلى مستوى يتم فتح تنافر الانكسار، وبالاعتماد على مفهوم هولدرلين للقسطرة لوصف هذه اللحظة يسميها بنيامين تمزق إيقاعي مضاد، وبتركيز جهوده على تمثيل هذه القسطرة فإنّ النقد الحقيقي بدوره يعمق العنف الانكساري، ويؤدي عملاً هدامًا أو جنائزيًا من إبادة الذات على العمل.

يلفت الفن في حدود قدرته على المحاكاة والانتباه إلى بنائه وفي القيام بذلك يجد الموارد اللازمة لتغليف حقيقة أعمق، كما إنّه ضد ما يسميه بنيامين اليقين المسيحي الصوفي في المصالحة المستقبلية (التي أدخلها جوته في خاتمة الرواية كمحاولة لمواجهة القدرية الأسطورية التي تسيطر على مكان آخر).

بل أنّه يؤيد بدلاً من ذلك بصيص الأمل المتناقض الذي تم تحديده مع صورة نجم الشهاب التي تظهر في رواية جوته، فإذا احتفظت صورة النجم بعلاقتها بالرمز هنا، فإنّها تفعل ذلك وفقًا لوصف بنيامين السابق للتعبير بأنّه (جذع رمز)، ومع ذلك قد يكون من الأفضل فهم أهمية القيصرية هنا في سياق نظرية الحكاية، والتي تمت صياغة هذا بشكل صحيح فقط في العمل الرئيسي التالي لبنيامين، وأطروحته حول أصل مسرحية الحداد الألمانية وذلك في عام 1928 (Ursprung des deutschen Trauerspiels).

كتاب والتر بنيامين حياة نقدية:

يعد هذا الكتاب سيرة ذاتية جديدة طموحة من قبل اثنين من الباحثين المخضرمين من بنيامين (هما هوارد إيلاند ومايكل دبليو جينينغز)، وستنزل كمحاولة حاسمة للتعبير عن التناقض الكامل والمتحرك للكاتب الذي حياته يشعر بأنّه مستوحى من روح القرن الماضي، وهذا دليل جزئي على تواضع مؤلفيه، وعلى الرغم من أنّ إيلاند وجينينغز رتبوا حياة بنيامين وعملهم ليس فقط في ترتيب زمني بل ترتيب تطوري تقريبي، إلّا أنّهم لم يجادلوا أبدًا في أنّ هذا التطور يشير إلى أي منطقة معينة من المشهد الفكري لما بعد الحرب.

كما تتجنب تفسيراتهم المطولة لمقالاته الرئيسية العقيدة لصالح القراءة الفاحصة والاقتباس الثقيل، وفي تناقض مع الكثير من الكتابات الأكاديمية حول بنيامين، وينحني المؤلفون إلى الوراء لإعفاء أنفسهم من مسؤولية التصنيف، كما أنّه على الرغم من أنّ العبارة اليوم تشير إلى الموافقة وليس التحذير، إلّا أنّ آيلاند وجينينغز يتفقان مع نقاد شوليم وأرندت وبنيامين المعاصرين عندما يؤكدون أنّ موضوعهم يتحدى التصنيف.

في الواقع على وجه الدقة لا يذهب المؤلفون إلى هذا الحد، وبدلاً من ذلك كتبوا أنّ كتابات بنيامين تتحدى التصنيف العام البسيط، وإنّه تنازل حكيم لما يجب على أي كاتب سيرة لبنيامين أن يعترف به على أنّه القوى الكسورية اللانهائية للناقد، ولقد فعل بنيامين أكثر من مجرد كتابة نقد غير قابل للتصنيف، حيث كانت مقالاته بحد ذاتها مآثر في التصنيف، كما أعادت تنظيم المفاهيم والأنساب التاريخية للكتب والكتاب والأشياء الثقافية التي لفتت انتباهه، ومن ثم فإنّ صلابته ككاتب لا يمكن تصنيفها هي مفارقة لطيفة، ذلك لتصنيفه سيتطلب تصنيفًا نقديًا لذكاء بنيامين.


شارك المقالة: