فلسفة بوبر في التأكيد والشمول والحوار

اقرأ في هذا المقال


في مقالات الفيلسوف مارتن بوبر يعرّف الرجل على أنّه الكائن الذي يواجه (الآخر) ويبني عالماً من الأفعال المزدوجة المتمثلة في التباعد والترابط، وتتحدى كتاباته كانط وهيجل وماركس وكيركجارد ونيتشه ودلثي وسيميل وهايدجر وقد أثر على إيمانويل ليفيناس.

التأكيد والشمول:

التأكيد هو موضوع مركزي للنصوص الفلسفية لمارتن بوبر بالإضافة إلى مقالاته حول التعليم والسياسة، فيجادل بوبر أنّه في حين أنّ الحيوانات تلجأ أحيانًا إلى البشر في وضع التصريح أو الإعلان، فإنّها لا تحتاج إلى إخبارها بأنّها ما هي عليه ولا ترى من تخاطبه كوجود مستقل عن تجربتها الخاصة، ولكن لأنّ الإنسان يختبر نفسه على أنّه غير محدد فإنّ تحقيقه لإمكانية على أخرى يحتاج إلى تأكيد، ففي التأكيد يلتقي المرء ويختار ويتعرف على الآخر كموضوع له القدرة على تحقيق إمكانات المرء، ولكي يكون التأكيد كاملاً يجب أن يعرف المرء أنّه يتم تقديمه للآخر.

كما يتضح في مقالاته حول التعليم فإنّ التأكيد ليس هو نفسه القبول أو التأكيد غير المشروط لكل ما يقوله أو يفعله الآخر، ونظرًا لأننا لم نولد مركزين ومتميزين تمامًا ويجب أن نكافح من أجل تحقيق شخصية موحدة، وفي بعض الأحيان يتعين علينا مساعدة (الآخر) على تحقيق نفسه ضد ميوله المباشرة، وفي هذه الحالات يشير التأكيد إلى فهم الوحدة الكامنة للآخر وتأكيد ما يمكن أن يصبح عليه الآخر، ولا يعني التأكيد أيضًا أنّ العلاقة الحوارية أو علاقة (أنا وأنت) يجب أن تكون دائمًا متبادلة تمامًا، فالعلاقات المساعدة مثل التعليم أو الشفاء هي بالضرورة غير متكافئة.

في سياق كتابته استخدم بوبر مصطلحات مختلفة مثل احتضان أو شمول (Umfassung) وتخيل الحقيقي (Realphantasie)، وفي إشارة إلى كانط توليف الإدراك لوصف فهم أخرى ضرورية للتأكيد والتي تحدث في علاقة أنا وأنت، فتخيل الحقيقي قدرة، (تقديم) هو حدث أسمى تعبير عن هذه القدرة في لقاء حقيقي بين شخصين، وهذا الشكل من المعرفة ليس تصنيفًا لخصوصية الآخر تحت فئة عالمية.

عندما يحتضن المرء ألم الآخر فهذا ليس إحساسًا بما هو الألم بشكل عام ولكن معرفة هذا الألم المحدد لهذا الشخص المحدد، ولا هذا التماثل معهم لأنّ الألم يظل دائمًا ألمهم الخاص، ويميّز بوبر الشمولية عن التعاطف، ففي التعاطف تضيع شخصية الفرد الملموسة والموقف في الامتصاص الجمالي في الآخر، وفي المقابل من خلال الدمج يعيش شخص ما من خلال حدث مشترك من وجهة نظر شخص آخر دون التخلي عن وجهة نظره الخاصة.

معوقات الحوار:

جنبًا إلى جنب مع التهرب من المسؤولية ورفض توجيه احتمالات الفرد الموصوفة في كتاب الخير والشر: تفسيران في عام 1952، فيجادل بوبر في عناصر ما بين البشر (في عام 1957 في معرفة الإنسان) بأنّ العقبة الرئيسية أمام الحوار هي ازدواجية الوجود (Sein) والظهور (Schein)، فالظهور هو الجبن الأساسي للإنسان، والكذب الذي يحدث كثيرًا في عرض الذات عندما يسعى المرء إلى توصيل صورة وإحداث انطباع معين.

تم العثور على أقصى مظهر من مظاهر ذلك في الداعية الذي يحاول فرض واقعه على الآخرين، ويقابل ذلك ظهور (انعدام الثقة الوجودي) الموصوف في خطاب بوبر عام 1952 في قاعة كارنيجي (الأمل لهذه الساعة) وذلك في الإشارة إلى الطريق، كما إنّ عدم الثقة يعتبر أمرًا مفروغًا منه أن يختفي الآخر، بحيث تصبح المحادثة بدلًا من لقاء حقيقي تصبح لعبة للكشف عن الدوافع اللاواعية وكشفها.

ينتقد بوبر ماركس ونيتشه وفرويد لمقابلة الآخر بالريبة وإدراك حقيقة الآخر على أنّها مجرد أيديولوجية، وبالمثل في خطاب قبوله لجائزة السلام لعام 1953 لتجارة الكتب الألمانية (الحوار الحقيقي وإمكانيات السلام) وذلك في تحديد الطريق، فيجادل بوبر بأنّ الشرط المسبق للسلام هو الحوار والذي يعتمد بدوره على الثقة، وفي حالة عدم الثقة يفترض المرء أنّ الآخر ممتلئ بالمثل بعدم الثقة مما يؤدي إلى احتياطي خطير ونقص في الصراحة.

نظرًا لأنّه عنصر أساسي في الأنثروبولوجيا الفلسفية يصبح المرء ذاتًا موحدة من خلال العلاقات مع الآخرين، فقد كان بوبر أيضًا ينتقد بشدة الطبيب النفسي كارل يونج وفلاسفة الوجود، ولقد جادل بأنّ إدراج الواقع تحت تصنيفات نفسية يقطع الإنسان عن العلاقات ولا يعامل الشخص بأكمله، واعترض بشكل خاص على اختزال يونغ للظاهرة النفسية إلى فئات من اللاوعي الخاص.

على الرغم من انتقاداته لفرويد ويونغ كان بوبر مهتمًا بشدة بالطب النفسي وألقى سلسلة من المحاضرات في مدرسة واشنطن للطب النفسي بناءً على طلب ليزلي هيلل فاربر، وشارك في حوار عام مع كارل روجرز في جامعة ميشيغان، ففي هذه المحاضرات بالإضافة إلى مقدمته عام 1951 لهانس تروب الشفاء من اللقاء (Heilung aus der Begegnung) (باللغة الإنجليزية باسم الشفاء من خلال الاجتماع في تحديد الطريق)، حيث ينتقد بوبر ميل علم النفس إلى حل الشعور بالذنب دون معالجة العلاقات المتضررة في جذر الشعور.

بالإضافة إلى فاربر وروجرز وتروب أثّر نهج بوبر الحواري للشفاء على عدد من علماء النفس والمحللين النفسيين بما في ذلك فيكتور فون وايزسكا لودفيج بينسوانجر وأريا سبورويتزو.

في كثير من الأحيان وصفه بأنّه وجودي ورفض بوبر الارتباط، وأكد أنّه في حين أنّ فلسفته في الحوار تفترض وجودًا مسبقًا، إلّا أنّه لم يكن يعلم بفلسفة الوجود التي تتغلب حقًا على العزلة وتسمح للآخرين بعيدًا بما فيه الكفاية، ويجعل سارتر وعي الذات نقطة انطلاقه على وجه الخصوص، ولكن في علاقة (أنا وأنت) لا يوجد لدى المرء نفسية منقسمة ولحظة خبرة وتأمل ذاتي.

في الواقع يعد الوعي بالذات أحد العوائق الرئيسية أمام الاجتماع العفوي، ويشرح بوبر عدم القدرة على فهم الآخر على أنّه قصور إدراكي يتم تعزيزه كآلية دفاعية في محاولة لعدم تحميله مسؤولية ما يخاطبه، وفقط عندما يُمنح الآخر حقيقة فإننا نحاسبه، وفقط عندما نمنح أنفسنا وجودًا حقيقيًا فإننا نحاسب أنفسنا، وكلاهما ضروري للحوار وكلاهما يتطلب تأكيدًا شجاعًا للذات وللآخر.

في أمثلة بوبر عن عدم الحوار يفقد الأنماط المزدوجة للمسافة والعلاقة التوازن والاتصال، ويطغى أحد القطبين على الآخر مما يؤدي إلى انهيار التمييز بينهما، على سبيل المثال يتحول التصوف (الاستغراق في الكل) إلى نرجسية (تراجع إلى نفسي)، وتتحول الجماعية (الاستغراق في الحشد) إلى عدم تفاعل مع الأفراد (تراجع إلى الفردية).

يحدد بوبر هذا الخطأ نفسه في فلسفة إيمانويل ليفيناس، بينما اعترف ليفيناس بأنّ بوبر أحد مؤثراته الرئيسية وكان لدى الاثنين سلسلة من التبادلات موثقة في ليفيناس وبوبر: الحوار والاختلاف (Levinas & Buber: Dialogue and Difference)، حيث جادل بوبر بأنّ ليفيناس قد أساء فهم فلسفته وأساء تطبيقها، وفي مفهوم بوبر عن تكوين الذات ترتبط الذات دائمًا بـ (الآخر) وتستجيب له، ولكن عندما يعتنق ليفيناس الآخر فإنّه يجعل الآخر متسامًا بحيث تكافح الذات دائمًا للوصول إلى الآخر اللامتناهي والاستجابة له بشكل مناسب، وهذا يعيد النفس إلى موقف العزلة الذي سعى بوبر للهروب منه.


شارك المقالة: