كان جان بودان محامياً وخبير اقتصادي وفيلسوف طبيعي ومؤرخ وأحد أهم المنظرين السياسيين في القرن السادس عشر، وهناك سببان وراء بقاء بودان ساحرًا وغامضًا فمن ناحية تظل جوانب حياته محاطة بالأسطورة، ومن ناحية أخرى أدى سوء الفهم حول فكره ومواقفه السياسية إلى ظهور اختلافات وتناقضات بين المؤرخين نُسبت خطأً إلى بودان نفسه.
منهجية بودان للتاريخ والقانون:
عندما بدأ بحثه انجذب الفيلسوف جان بودان للتحليل والنظاميات كطرق لتنظيم المعرفة، وفي عنوانه الطريقة لعمله أعطى معنى جديدًا ونهائيًا لكلمة استخدمها المؤلفون السابقون للدلالة على كل من الانقسام والنسبة أو الإجراء لتعلم تخصص ما.
في عمله الطريقة أو المنهج يشجع بودان قراءه على استخدام التحليل والذي يسميه هذا الدليل البارز لتدريس الفنون لكي يكون فهم التاريخ (history science) كاملاً وسهلًا، ووفقًا لبودان من خلال التحليل يمكن للمرء تقسيم المسلمات إلى أجزاء وتقسيم كل جزء إلى أقسام فرعية دون فقدان تماسك الكل، ولذلك يقول إنّ التوليف لم يعد ضروريًا لأنّ الحلقات الفردية لجميع الروايات التاريخية تقريبًا قد تم تكييفها جيدًا مع بعضها البعض، وقد أعاد أفضل المؤرخين بعناية هذه الحسابات الجزئية والإقليمية في لوحة التاريخ العالمي.
ينسب بودان دورًا فريدًا للمعرفة السياسية وبذلك يميّز كتاباته عن العديد من المعالجات المماثلة لتاريخ الفن (ars Historica) التي نُشرت في نهاية القرن الخامس عشر، وتم إنتاج روائع هذا النوع في إيطاليا مثل فرانشيسكو باتريزي التابع التاريخ الحواري عشرة 1560، وفي فرنسا بقلم فرانسوا بودوين مؤسسة التاريخ الكوني وارتباطها بالفقه في باريس 1561، وعلى الرغم من أنّه لم يستشهد ببودوين إلّا أنّ بودان كان مدينًا لهذا المؤلف الفرنسي الذي كان أول من وصف بطريقة علمية الروابط المتعددة بين القانون و التاريخ العالمي.
فصول المنهج:
تتضمن عناوين الفصول ما يلي:
1- ما هو التاريخ وعدد الفئات.
2- ترتيب قراءة الرسائل التاريخية.
3- الترتيب الصحيح للمواد التاريخية.
4- اختيار المؤرخين.
5- التقييم الصحيح للتاريخ.
6- نوع الحكومة في الولايات.
7- دحض أولئك الذين يفترضون الملكيات الأربعة والعصر الذهبي.
8- نظام التوقيت العالمي.
9- المعايير التي يتم من خلالها اختبار أصول الشعوب.
10- رهبنة ومجموعة المؤرخين.
التاريخ والقانون:
بالنسبة لبودان كانت المنهجيات عبارة عن تمثيلات مرئية لأنظمة المعرفة، ولقد أوضح هذه النقطة في كتابه تعرض (Exposition) حيث ذكر أنّ مفهوم التقسيم الذي أطلق عليه أفلاطون اسم إلهي هو القاعدة العالمية للعلوم، وإذا كان التاريخ مقسمًا إلى تاريخ إلهي وتاريخ طبيعي وتاريخ بشري فيمكن تقسيم القانون إلى قانون طبيعي وقانون إنساني وقوانين دول وقانون عام وقانون مدني.
من هناك يصف بودان بإيجاز ويعرف الأمور القانونية بما في ذلك: العقود والجرائم والممتلكات والالتزام والسلطة والولاية القضائية وما إلى ذلك، وهنا أكثر من الطريقة يرى القارئ انشغال بودان التربوي بالإيجاز وموجزية، والعمل موضّح أيضًا بعدد من الجداول التخطيطية، وفي المجال الخاص أظهر بودان موهبته للتدريس في رسالة إلى ابن أخيه وفي النصيحة القصيرة حول تعليم الأمير والتي كانت محدودة التداول.
سياسة بودين: السيادة أم الاستبداد؟
عمل بودان الرئيسي الكتب الستة للكومنولث (Six Books of the Commonwealth) هو معالجة للعلوم السياسية وهو المصطلح الذي ادعى بودان أنّه صاغه، الكتب بعنوان:
1- النهاية النهائية للكومنولث حسن التنظيم.
2- من أنواع الكومنولث المختلفة.
3- المجلس.
4- صعود وسقوط الكومنولث.
5- الأمر الواجب مراعاته في تكييف شكل الكومنولث مع الظروف المتنوعة للرجال ووسائل تحديد شخصياتهم.
6- التعداد والرقابة.
مساهمة بودان الأساسية في العلوم السياسية في عصره هي تعريفه للسيادة، وهو يؤكد أنّ السيادة لها تأثير على كل من الشؤون الداخلية للدولة (مثل ممارستها للسلطة السياسية الكاملة) وكذلك على شؤونها الخارجية (مثل إدارة الحرب والعلاقات الدولية)، فالجلالة أو السيادة هي السلطة العليا والمطلقة والدائمة على المواطنين والرعايا في الكومنولث والتي يسميها اللاتينيون صاحبة الجلالة (Majestas).
تتوافق مناقشة بودان لقتل الطغيان مع نظريته السياسية، على سبيل المثال بينما يقول أنّ هناك حالات يكون فيها قتل الطغيان مبررًا (على سبيل المثال ضد المغتصبين المستبدين)، فإنّ قتل أمير يُفترض أنّه طاغية ممنوع إذا كان الأمير هو صاحب السيادة المطلقة.
إذا كان الأمير هو صاحب السيادة المطلقة كما هو الحال بالنسبة للملوك الحقيقيين لفرنسا وإسبانيا وإنجلترا واسكتلندا وإثيوبيا وتركيا وبلاد فارس وموسكوفي، الذين يتمتعون بسلطتهم بلا شك ولا يتم تقاسمها مع أي من رعاياهم فعندئذ يكون لا يسمح بأي ظرف من الظروف سواء من قبل أي من رعاياهم بشكل خاص أو بشكل عام، لمحاولة أي شيء ضد حياة وشرف ملكهم سواء من خلال عملية قانونية أو بقوة السلاح، على الرغم من أنّه ارتكب كل الشر والشر والقسوة أفعال يمكن تخيلها.
أشكال الدولة والحكومة:
أولى بودان اهتمامًا خاصًا للتمييز بين أشكال الدولة وأشكال الحكومة، على سبيل المثال عرّف النظام الملكي على أنّه حكم الفرد والأرستقراطية كقاعدة لقلة والديمقراطية كقاعدة لكل الناس، ومع ذلك قد تظل الأنظمة الملكية ديمقراطيات وفقًا لبودان إذا سمح الأمير لجميع الناس بالوصول إلى المحاكم ومكاتب الدولة دون اعتبار للنبل أو الثروة أو الفضيلة، وخلاف ذلك يمكن أن تكون الملكية شكلاً من أشكال الأرستقراطية إذا كان الأمير يمنح مسؤوليات الدولة فقط للأكثر نبلاً أو الأغنى أو الأكثر فضيلة، وتنطبق نفس الملاحظات على الأنظمة الأرستقراطية والشعبية.
الفرق بين الملكيات:
تعتبر الفروق بين أشكال الدولة وأشكال الحكومة ضرورية لفهم الاختلافات بين الملكيات الملكية والملكيات الاستبدادية والملكيات الطغيانية، والتي يتم الخلط بين الأخيرين بسهولة فيوضح بودان بأنّه يجب عدم الخلط بين الملكية الاستبدادية و الطغيانية، فلا يوجد شيء غير لائق في أمير هزم أعداءه في حرب جيدة وعادلة، متخذًا حقًا مطلقًا في ممتلكاتهم وأفرادهم بموجب قوانين الحرب ومن ثم يحكمهم كعبيد له.
كما أنّ رب الأسرة هو سيد عبيده وممتلكاتهم ويتصرف بها كما يراه مناسبًا بموجب قانون الأمم، ولكن الأمير الذي يستعبد شعبًا أحرارًا بحرب ظالمة أو بأي وسيلة أخرى ويستولي على ممتلكاته ليس مستبد بل طاغية.
إنّ الفرق بين الاستبداد والطغيان أمر بالغ الأهمية، فالاستبداد مشروع وأحيانًا قانوني، ومن ناحية أخرى فإنّ الطغيان دائمًا غير شرعي وغير قانوني ومخالف للقوانين الطبيعية والإلهية، ولذلك يوضح بودان أنّه بصدد بناء نظريته عن السيادة وليس نظرية الاستبداد، ويمكن ملاحظة الشيء نفسه فيما يتعلق بالملكية المطلقة.
عندما استخدم بودان صفة مطلق لتعريف صاحب السيادة وفعل ذلك بصفته رومانيًا وكمؤرخ للقانون الروماني الذي ارتبطت كلمة مطلق بـ(legibus solutus) أي حق صاحب السيادة، ويجب على المرء أن ينتبه جيدًا إلى كتابات بودان لفهم مفهومه عن المطلق، وبالنسبة لبودان فإنّ السيادة غير ملزمة (مطلق) بالقوانين المدنية أو الوضعية التي أصدرها هو أو أسلافه.
ومع ذلك فإنّ صاحب السيادة ملزم دائمًا بالقانون الطبيعي والإلهي، فالسيادة وفقًا لبودان هي العليا كما يرغب المرء ولكنها مقيدة أيضًا بالقانون الطبيعي والإلهي، وكان ملوك فرنسا مجيدًا لأنّ سيادتهم كانت مقيدة بالقانون الإلهي والطبيعي، ولسوء الحظ مع إدخال كلمة الاستبداد في القرن التاسع عشر بدأ مؤرخو الفلسفة السياسية في اعتبار بودان كمنظر للحكم المطلق، وهذا هو الاتجاه الذي يستمر حتى اليوم.
وبذلك نسب بعض المؤرخين إلى بودان عقيدة كانت غريبة عنه، وبدلاً من ذلك نظّم بودان وعرّف نظرية السيادة، ولكن مشكلة التفسير التاريخي هذه تعتمد على المنهجية وعلى المنظور المتزامن والتزامن، أي عندما لا يقارن المؤرخون بودان بمكيافيللي فإنّهم غالبًا ما يدرسون بودان مقارنة بمن أتوا من بعده مثل غروتيوس وألثوسيوس ولوك وهوبز وعلى وجه الخصوص مونتسكيو وروسو.
لا شيء يجب أن يمنع المؤرخ من إجراء مثل هذه المقارنات طالما أنّها ليست طريقته الوحيدة في التحليل، وكما يفهم جميع المؤرخين من أجل فهم المؤلف بشكل كامل ودقيق من الضروري وضع عمله بشكل مباشر في سياق ومناقشات فترته التاريخية، لذلك يجب على المرء أن يحكم على بودان ويفسره بناءً على الأعمال والمصادر والوثائق الحالية في قرنه بدلاً من تلك التي ستظهر في المستقبل.