نُشرت أبرز مساهمة لجان بودان في مجال الفلسفة السياسية لأول مرة عام 1576 وفي ترجمته اللاتينية بعد ذلك بعقد من الزمن، وتوجد اختلافات كبيرة بين النسختين الفرنسية واللاتينية للنص، وسرعان ما تبعت الترجمات إلى لغات أخرى ومنها: الإيطالية عام 1588 والإسبانية عام 1590 والألمانية عام 1592 والإنجليزية عام 1606.
مقدمات كتاب الجمهورية:
يجب النظر إلى كتاب الجمهورية على الأقل جزئيًا على أنّها استجابة بودان لأهم أزمة سياسية في فرنسا خلال القرن السادس عشر: الحروب الدينية الفرنسية من عام 1562 إلى عام 1598، وتم كتابته كدفاع عن الملكية الفرنسية ضد ما يسمى كتاب موناركوماكي (Monarchomach) ومن بينهم فرانسوا هوتمان وثيودور بيزا ومؤلف فينيدشي (Vindiciae) كونترا تيرانوس، حيث دعا كتاب موناركوماكي إلى قتل الطغيان واعتبروا أنّ دور القضاة والملكيات العامة هو الحد من السلطة السيادية للحاكم وأنّ تستمد هذه السلطة في البداية من الشعب.
نشر بودان ثلاث مقدمات مختلفة للجمهورية (République):
1- الأول هو مقدمة موجودة في جميع الطبعات الفرنسية.
2- الثاني هو حرف تمهيدي باللاتينية يظهر في الطبعات الفرنسية من عام 1578 فصاعدًا.
3- المقدمة الثالثة هي مقدمة للطبعات اللاتينية.
كانت هذه المقدمات الثلاث فرصة لبودان للدفاع عن عمله ضد الكتاب الذين هاجموه، ويقدمون لنا وصفًا لكيفية تطور آراء بودان خلال السنوات التي أعقبت نشر الجمهورية، ففي عام 1580 أجاب بودان على منتقديه في عمل بعنوان اعتذار من رينيه هيربين عن جمهورية جان بودان (Apologie de René Herpin pour la République de Jean Bodin)، حيث كان رينيه هيربين اسمًا مستعارًا يستخدمه بودان.
فلسفة بودان في كتاب الجمهورية:
يناقش الكتاب الأول من الجمهورية الغايات والأهداف الرئيسية للدولة وعناصرها المختلفة وطبيعة وعلامات السلطة السيادية، أما في الكتاب الثاني يناقش بودان أنواعًا مختلفة من الدول (الديمقراطية والأرستقراطية والملكية) ويخلص إلى أنّه لا يمكن أن توجد دولة مختلطة، وفي الفصل الخامس يفحص بودان الظروف التي يمكن بموجبها قتل طاغية أي حاكم غير شرعي لا يمتلك سلطة سيادية، ومن ناحية أخرى لا يجوز لملك شرعي أن يقاوم رعاياه حتى لو كان يتصرف بطريقة استبدادية.
يناقش الكتاب الثالث الأجزاء المختلفة من الدولة: مجلس الشيوخ ودوره ودور القضاة وعلاقتهم بالسلطة السيادية ودرجات السلطة المختلفة بين القضاة، ويتم أيضًا تعريف الكليات والشركات والجامعات والنظر فيها، أصل وازدهار وانحدار الدول والأسباب التي تؤثر على هذه التغييرات هي موضوع الكتاب الرابع، ويبدأ الكتاب الخامس بعرض لنظرية المناخ بحيث يجب تكييف قوانين الدولة وشكل الحكومة مع طبيعة كل شعب.
ثم يناقش بودان الاختلافات المناخية بين الشمال والجنوب وكيف تؤثر هذه الاختلافات على المزاج البشري، ويبدأ الكتاب الأخير من الجمهورية بمسألة التعداد والرقابة أي تقييم ممتلكات كل فرد والمزايا التي يمكن الحصول عليها منها، ويناقش الفصلان الثاني والثالث المالية العامة للدولة ومشكلة التقليل من قيمة العملة المعدنية، والفصل الرابع هو مقارنة بين الأشكال الثلاثة للدولة.
يجادل بودان بأنّ الملكية الملكية أو الوراثية (على عكس الاختيارية) هي أفضل شكل من أشكال الدولة، وتمت مناقشة قانون ساليك أو قانون وراثة العرش حيث يرى بودان أنّ حكم المرأة مخالف للقانون الإلهي والطبيعي والإنساني، وقانون ساليك جنبًا إلى جنب مع قانون يحظر الاغتراب عن الملك العام يسمى القانون الزراعي في المنهج، والذي يفرض قيودًا قانونية على سلطة الأمير صاحب السيادة، وتتعلق القوانين الأساسية بحالة المملكة وهي مُلحقة بالتاج وبالتالي لا يمكن للأمير صاحب السيادة أن ينتقص منها.
الفصل الختامي من الجمهورية هو مناقشة تتعلق بمبدأ العدالة في حكومة الدولة، ويتم شرح العدالة الهندسية والحسابية والتوافقية وكذلك علاقتها بأشكال الدولة المختلفة، ويمكن الكشف عن تأثير أفلاطوني قوي في الفصل الأخير من العمل حيث أنّ الحاكم الحكيم يؤسس الانسجام داخل الكومنولث، تمامًا كما أسس الله الانسجام في الكون الذي خلقه، ولكل فرد مكانه المناسب وهدفه في الكومنولث.
مفهوم السيادة:
يبدأ الجمهورية بالتعريف التالي للكومنولث (الجمهورية): “الكومنولث هو حكومة شرعية للعديد من العائلات، ومن تلك التي تخصهم في ممتلكاتهم المشتركة، مع سيادة مطلقة”، وتم توضيح معنى السلطة السيادية في الفصل الثامن من الكتاب الأول: “هي أعلى سلطة مطلقة ودائمة على المواطنين والمتعاقدين في الكومنولث.
بعد تحديد السيادة يحدد بودان معنى المصطلحين دائم ومطلق، ولا يمكن أن يُطلق على الشخص الذي تُمنح السيادة له لفترة معينة من الزمن ويصبحون عند انقضائها مواطنين عاديين مرة أخرى وصاحب السيادة.
عندما تُمنح السلطة السيادية إلى شخص ما لفترة زمنية معينة فإنّ الشخص أو الأشخاص الذين يتلقونها ليسوا سوى الأمناء والأوصياء على تلك السلطة، ويمكن إزالة السلطة السيادية منهم من قبل الشخص أو الأشخاص الذين يتمتعون بالسيادة حقًا، لذلك يكتب بودان أنّ السيادة: “ليست محدودة سواء في القوة أو الشحنة أو الوقت المحدد”، والقوة المطلقة هي سلطة الغلبة على القانون العادي وليس لها شرط آخر غير الشرط الذي يأمر به قانون الله والطبيعة.
يستمد بودان الامتياز الأول للأمير السيادي الذي قدم التعريف التالي: “فليكن هذا هو العلامة الأولى والرئيسية لأمير حاكم، ولتحلة السلطة لإعطاء القوانين لجميع أتباعه بشكل عام وواحد منهم على وجه الخصوص، ودون موافقة أي أكبر أو متساو أو أقل منه”، وجميع الحقوق وامتيازات السيادة الأخرى مشمولة في سلطة سن القوانين وإلغائها كما يكتب بودان ويستمر: “حتى (للتحدث بشكل صحيح) يمكن للرجل أن يقول أنّه لا يوجد سوى هذه العلامة الوحيدة للقوة الحاكمة مع الأخذ في الاعتبار أنّ الجميع وترد في هذا الحقوق الأخرى”.
وتشمل الصلاحيات الأخرى إعلان الحرب وصنع السلام والاستماع إلى الاستئنافات في الحالة الأخيرة، وإقامة كبار الضباط وإقالتهم وفرض الضرائب على الأشخاص أو إعفائهم ومنح العفو والإعفاءات وتحديد اسم العملة وقيمتها وقياسها أخيرًا ومطالبة الرعايا بقسم ولائهم لأميرهم صاحب السيادة.
السيادة وعلاماتها أو سماتها المميزة غير قابلة للتجزئة ويجب بالضرورة أن تركز السلطة العليا داخل الكومنولث على شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص، ويجادل بودان بأنّ الامتياز الأول للحاكم ذو السيادة هو إعطاء القانون للرعايا دون موافقة أي فرد آخر، ومن هذا التعريف يستمد الاستحالة المنطقية لتقسيم السيادة وكذلك استحالة وجود دولة مختلطة، أي إذا كانت السيادة بمعنى آخر سلطة إعطاء القانون داخل الدولة مقسمة، على سبيل المثال بين الأمير والنبلاء والشعب لن يكون هناك في الكومنولث واحد، ولكن العديد من الوكلاء الذين يمتلكون القوة لإعطاء القانون.
في مثل هذه الحالة يقول بودان لا يمكن أن يُطلق على أي شخص ذاتًا لأنّ الجميع لديهم القدرة على سن القانون، بالإضافة إلى ذلك لن يتمكن أي شخص من إعطاء القوانين للآخرين حيث سيُجبر واضعو القانون على تلقي القانون من أولئك الذين يرغبون في فرض القوانين عليهم، لذلك ستكون الدولة شعبية أو ديمقراطية، وفي النسخة اللاتينية المنقحة من الجمهورية توصف نتيجة السيادة المنقسمة بأنّها حالة من الفوضى حيث لا أحد يرغب في إطاعة القوانين.
تعريف القانون:
يكتب بودان أنّ هناك فرقًا كبيرًا بين القانون والحق، فالقانون هو أمر الأمير صاحب السيادة الذي يستخدم سلطته، بينما يشير الحق إلى ما هو عادل، ويشير الحق ضمنيًا إلى شيء ذي محتوى معياري، ومن ناحية أخرى ليس للقانون محتوى أخلاقي أو آثار معيارية.