اقرأ في هذا المقال
إنّ عمل الفيلسوف جان بودريار مرآة الإنتاج وكتابه التالي (التبادل الرمزي والموت) (Symbolic Exchange and Death) عام 1976 وهو نص رئيسي تمت ترجمته أخيرًا في عام 1993، يعدان هذان العملان محاولات لتقديم وجهات نظر متطرفة تتغلب على قيود التقليد الماركسي الاقتصادي الذي يميّز المجال الاقتصادي، وهذه المرحلة اليسارية المتطرفة من مسار رحلة بودريار التي لن تدوم طويلاً، على الرغم من أنّه في التبادل الرمزي والموت أنتج بودريلاد أحد أهم استفزازاته وأكثرها إثارة.
فلسفة ومقاومة الرأسمالية:
يبدأ النص بمقدمة تلخص محاولته تقديم نهج مختلف بشكل كبير للمجتمع والثقافة، حيث بناءً على النظرية الثقافية الفرنسية لجورج باتاي ومارسيل موس وألفريد جاري يناصرون (التبادل الرمزي) الذي يقاوم القيم الرأسمالية للمنفعة والربح النقدي للقيم الثقافية.
كما يجادل بودريار أنّه في ادعاء باتاي بأنّ الإنفاق والإفراط مرتبطان بالسيادة، وفي أوصاف موس للمكانة الاجتماعية لتقديم الهدايا في المجتمع ما قبل الحداثي، ومسرح جاري الذي يسخر من الثقافة الفرنسية، حيث هناك قطيعة مع قيم التبادل والإنتاج الرأسماليين أو إنتاج المعنى في التبادل اللغوي، ويعتقد بودريار أنّ حالات التبادل الرمزي هذه تخترق قيم الإنتاج وتصف التبادل الشعري والنشاط الثقافي الإبداعي الذي يوفر بدائل للقيم الرأسمالية للإنتاج والتبادل.
تم اشتقاق مصطلح التبادل الرمزي من فكرة جورج باتاي عن الاقتصاد العام، حيث يُزعم أنّ الإنفاق والهدر والتضحية والدمار أكثر جوهرية للحياة البشرية من اقتصادات الإنتاج والمنفعة، وكان نموذج باتاي هو الشمس التي تنفق طاقتها بحرية دون أن تطلب أي شيء في المقابل، ولقد جادل بأنّه إذا أراد الأفراد أن يكونوا سياديين حقًا (على سبيل المثال متحررين من ضرورات الرأسمالية) فعليهم السعي وراء اقتصاد عام من الإنفاق والعطاء والتضحية والدمار للهروب من تحديد مقتضيات المنفعة الحالية.
بالنسبة لباتاي كان البشر كائنات مفرطة ذات طاقة باهظة وأوهام ودوافع واحتياجات ورغبة غير متجانسة، وفي هذه المرحلة يفترض بودريار حقيقة أنثروبولوجيا باتاي والاقتصاد العام، ففي مراجعة عام 1976 لمجلد الأعمال الكاملة لباتاي كتب بودريار: “الفكرة المركزية هي أنّ الاقتصاد الذي يحكم مجتمعاتنا ناتج عن اختلاس مبدأ الإنسان الأساسي، وهو مبدأ الطاقة الشمسية للإنفاق”.
فلسفة بودريار والنقد الأرستقراطي:
في أوائل السبعينيات تولى بودريار منصب باتاي الأنثروبولوجي وما يسميه (النقد الأرستقراطي) لباتاي للرأسمالية، والذي يدّعي الآن أنّه يرتكز على المفاهيم الفظة للمنفعة والادخار بدلاً من الفكرة الأرستقراطية الأكثر سامية حول الإفراط والإنفاق.
كما يفترض باتاي وبودريار هنا وجود تناقض بين الطبيعة البشرية والرأسمالية، حيث يؤكدون أنّ البشر بطبيعتهم يستمتعون بأشياء مثل الإنفاق والهدر والاحتفالات والتضحيات وما إلى ذلك، بحيث يتمتعون بالسيادة والحرية في إنفاق تجاوزات طاقتهم وبالتالي اتباع طبيعتهم الحقيقية، كما إنّ الضرورات الرأسمالية للعمل والمنفعة والمدخرات ضمنيًا غير طبيعية وتتعارض مع الطبيعة البشرية.
كما يجادل بودريار بأن النقد الماركسي للرأسمالية على النقيض من ذلك، ويهاجم فقط قيمة التبادل بينما يرفع قيمة الاستخدام وبالتالي المنفعة والعقلانية الأداتية، وبالتالي يسعى إلى الاستخدام الجيد للاقتصاد.
يكشف بودريار بأحد المقاطع الخاصه به وبشكل كبير للإشارة عن التحول إلى النقد الأرستقراطي للاقتصاد السياسي المتأثر بعمق بباتاي ونيتشه، فبالنسبة لباتاي وبودريار يقدمان نسخة من الأخلاق الرئيسية الأرستقراطية لنيتشه، حيث يخلق الأفراد المتفوقون قيمهم الخاصة، وتعبّر حياتهم عن فائض وتفيض وتكثيف للطاقات الإبداعية والإثارة، حيث كان لنيتشه تأثير كبير طوال حياة بودريار وخاصة في العقود الأخيرة من عمله، حيث كانت الزخارف وأنماط التفكير وممارسات الكتابة التي استخدمها نيتشه مصدر إلهام لعمله بشكل متزايد.
أصبح بودريار راديكاليًا بشكل متزايد و غير معاصر، ويقف بمفرده ضد الاتجاهات والموضة الحالية في نمط تفكير فردي بشدة، وبدأت تصنيفات نيتشه مثل القدر والانعكاس وعدم اليقين والهجوم الأرستقراطي على الحكمة التقليدية في تشكيل كتاباته، والتي غالبًا ما اتخذت شكل الأمثال أو المقالات القصيرة على غرار نيتشه.
لبعض الوقت استمر بودريار في مهاجمة البرجوازية ورأس المال والاقتصاد السياسي، ولكن من منظور يناصر الإنفاق الأرستقراطي والقيم السخية والجمالية والرمزية، بينما يعد الجانب المظلم من تحوله في الولاءات النظرية والسياسية هو تثمين (أي إعطاء أو تخصيص قيمة) للتضحية والموت الذي يُعلِم التبادل الرمزي والموت (حيث تقدم التضحية عطاء يفسد القيم البرجوازية للمنفعة والحفاظ على الذات، وهي فكرة لها آثار شريرة في عصر التفجيرات الانتحارية والإرهاب).
فلسفة بودريار والأرستقراطية الجديدة:
على العموم في منتصف السبعينيات من القرن الماضي كان بودريار يخرج نفسه من العالم الماركسي المألوف للإنتاج والصراع الطبقي إلى نظرة أرستقراطية جديدة وميتافيزيقية للعالم مختلفة تمامًا، ويبدو أنّ بودريار يفترض في هذه المرحلة أنّ مجتمعات ما قبل الرأسمالية كانت تحكمها أشكال من التبادل الرمزي مشابهة لمفهوم باتاي عن الاقتصاد العام.
بعد تأثره بنظرية موس عن الهدية والهدية المضادة ادّعى بودريار أنّ مجتمعات ما قبل الرأسمالية كانت تحكمها قوانين التبادل الرمزي بدلاً من الإنتاج والمنفعة، ومن خلال تطوير هذه الأفكار رسم بودريار خطًا فاصلًا أساسيًا في التاريخ بين المجتمعات الرمزية -أي المجتمعات المنظمة أساسًا حول التبادل ما قبل الحداثة- والمجتمعات الإنتاجية (أي المجتمعات المنظمة حول الإنتاج وتبادل السلع).
وبالتالي فهو يرفض الفلسفة الماركسية للتاريخ التي تفرض أولوية الإنتاج في جميع المجتمعات وترفض المفهوم الماركسي للاشتراكية، بحجة أنّها لا تنفصل جذريًا بما فيه الكفاية عن الإنتاجية الرأسمالية، وتقدم نفسها كمنظمة إنتاج أكثر كفاءة وإنصافًا بدلاً من كونها نوعًا مختلفًا تمامًا من المجتمع بقيم وأشكال مختلفة من الثقافة والحياة.
من الآن فصاعدًا سيقارن بودريار بطريقة أو بأخرى مثاله للتبادل الرمزي مع قيم الإنتاج والمنفعة والعقلانية الأداتية التي تحكم المجتمعات الرأسمالية (والاشتراكية)، وهكذا يظهر التبادل الرمزي باعتباره البديل الثوري لبودريار لقيم وممارسات المجتمع الرأسمالي، وهو يمثل مجموعة متنوعة من الأنشطة غير المتجانسة في كتاباته في السبعينيات.
على سبيل المثال كتب في كتابه النقد: “تبادل النظرات الحاضر الذي يأتي ويذهب يشبه الهواء الذي يتنفسه الناس ويخرجون، وهذا هو التمثيل الغذائي للتبادل والإفراط والاحتفال وأيضًا التدمير (الذي يعود إلى ما أنشأه الإنتاج وقيمه)، وفي هذا المجال لا يتم التعرف على القيمة”.
كما يصف مفهومه للتبادل الرمزي في مرآة الإنتاج حيث كتب: “العلاقة الاجتماعية الرمزية هي الحلقة المستمرة للعطاء والتلقي، والتي تشمل في التبادل البدائي استهلاك الفائض ومناهضة الإنتاج المتعمد”، ويشير المصطلح إذن إلى الأنشطة الرمزية أو الثقافية التي لا تساهم في الإنتاج والتراكم الرأسمالي والتي من المحتمل أن تشكل نفيًا جذريًا للمجتمع الإنتاجي.