يذهب الفيلسوف جان بودريار في نهاية المطاف إلى ما هو أبعد من الفلسفة والنظرية الاجتماعية الكلاسيكية تمامًا، لمجال جديد ونمط كتابة جديد يوفر رؤى نقدية لاذعة في بعض الأحيان للظواهر الاجتماعية المعاصرة والنقد الاستفزازي للفلسفة المعاصرة والكلاسيكية والنظرية الاجتماعية، ويظهر الآن في وقت لاحق كمفكر خاص تمامًا سار بطريقته الخاصة، فقد طوّر أسلوبه الخاص في الكتابة والفكر الذي سيستمر في استفزاز الطلاب المعاصرين والمستقبليين للفلسفة والنظرية النقدية.
ما هو التبادل المستحيل؟
دخل بودريار في عالم فكري بعيدًا عن الفلسفة الأكاديمية، كعالم يطرح تساؤلات حول الأساليب التقليدية للفكر والخطاب، ولقد أكسبه بحثه عن وجهات نظر فلسفية جديدة جمهورًا عالميًا مخلصًا، ولكنه أكسبه أيضًا انتقادات بسبب السخرية المفرطة والتلاعب بالكلمات والألعاب الفكرية، ومع ذلك فإن عمله يمثل استفزازًا للفلسفة التقليدية والمعاصرة التي تتحدى المفكرين لمعالجة المشكلات الفلسفية القديمة مثل الحقيقة والواقع بطرق جديدة في العالم المعاصر.
يواصل بودريار هذا الخط الفكري في نصه 1999 التبادل المستحيل، وفي ثلاثة أجزاء تحتوي على سلسلة من المقالات القصيرة طوّر أولاً مفهومه عن التبادل المستحيل بين المفاهيم والعالم والنظرية والواقع والموضوع والهدف، ويهاجم المحاولات الفلسفية لالتقاط الواقع مجادلاً بعدم قابلية القياس بين المفاهيم وأغراضها وأنظمة التفكير والعالم.
بالنسبة لبودريار فإنّ الأخير دائمًا ما يكون بعيدًا عن الاستيلاء عليه من قبل الأول، وبالتالي فإنّ الفلسفة هي تبادل مستحيل يستحيل فيه فهم حقيقة العالم وتحقيق اليقين وإنشاء أساس للفلسفة أو إنتاج نظام فلسفي يمكن الدفاع عنه.
وبالعودة إلى الوراء فإنّ اللعب الفلسفي لبودريار مع تمييز الذات أو الشيء وتخليه عن الذات والانتقال إلى جانب الكائن هو جانب أساسي من فكره، ولقد حدد هذا الانقسام مع ثنائية الخير والشر حيث يتم اعتبار تنمية الذات وسيطرتها على الموضوع على أنها خير داخل الفكر الغربي، بينما تتشابك سيادة الموضوع وجانبه مع مبدأ الشر.
يعتبر فكر بودريار ثنائيًا جذريًا وهو يتخذ جانب القطب ضمن سلسلة من الانقسامات في الفكر الغربي التي تم الاستهزاء بها عمومًا على أنها أقل شأناً، مثل الانحياز للمظهر ضد الواقع والوهم على الحقيقة والشر على الخير والمرأة على الرجل وفي الجريمة المثالية، وأعلن بودريار أنّ الحقيقة قد دُمِّرت ومن الآن فصاعدًا أنّ الناس يعيشون في عالم من مجرد مظهر، وفي هذا الكون اليقين والحقيقة مستحيلان، ويأخذ بودريار جانب الوهم مجادلًا في كتابه التبادل المستحيل (Impossible Exchange) عام 2001 بأنّ: “الوهم هو القاعدة الأساسية”.
يجادل بودريار أيضًا بأنّ العالم بلا معنى وأن تأكيد اللامعنى هو التحرر: “إذا استطعنا قبول هذا اللامعنى للعالم، عندها يمكننا اللعب بالأشكال والمظاهر ودوافعنا دون القلق بشأن وجهتها النهائية، وكما يقول سيوران نحن لسنا فاشلين حتى نعتقد أنّ الحياة لها معنى، ومن تلك النقطة فصاعدًا نحن فاشلون لأنّه لم يحدث”، والأكثر إثارة للجدل هو أنّ بودريار يعرّف أيضًا بمبدأ الشر المعرّف بأنّه ما يعارض الخير ويعارضه.
وهناك بعد المانوية والغنوصية واضح لفكره ممزوج بالتشكيك والسخرية والعدمية، ومع ذلك فإنّ التفكيك يفصل ثنائية الموضوع أو الهدف مما يشير إلى استحالة اتخاذ جانب الذات أو الشيء، أو الخير والشر لأنّ كلاهما مترابط مع بعضهما البعض ولا يمكن أن يكون هناك كائن نقي بدون موضوع والعكس صحيح، وهذه الحجة صنع أدورنو حيث يعتبر فكر بودريار ثنائيًا في جوهره وليس جدليًا.
فقد كان تفكيره متشددًا بشكل صريح مع المبارزة التي تم تقديمها جنبًا إلى جنب مع ازدواجيته، حيث يتولى ويهاجم النظريات والمواقف المتنافسة، فالتناقضات لا تزعج بودريار لأنّه يؤكدها بالفعل، وبالتالي من الصعب الجدال مع بودريار على أسس فلسفية بحتة ويحتاج المرء إلى فهم أسلوبه في الكتابة، ومفهومه عن التخيلات النظرية وإشراك بروزها وتأثيراتها.
تأثير فلسفة بودريار:
لم يكن بودريار مؤثرًا في فرنسا كما هو الحال في العالم الناطق بالإنجليزية وفي أي مكان آخر وهي نقطة تم ذكرها في العديد من نعي فرنسا عند وفاته، وإنّه مثال على الشعبية العالمية، وهو مفكر لديه أتباع وقراء في جميع أنحاء العالم رغم أنّه حتى الآن لم تظهر مدرسة بودريلارديان، حيث كان تأثير بودريار إلى حد كبير على هامش عدد متنوع من التخصصات التي تتراوح من النظرية الاجتماعية إلى الفلسفة إلى تاريخ الفن، وبالتالي من الصعب قياس تأثيره على الفلسفة أو الاتجاه السائد لأي تخصص أكاديمي محدد.
ربما يكون بودريار هو الأهم كجزء من تحول ما بعد الحداثة ضد المجتمع الحديث وتخصصاته الأكاديمية، ويمتد عمله عبر التخصصات ويعزز الفكر متعدد التخصصات، ويتحدى الحكمة المعيارية ويضع في الاعتبار العقيدة والأساليب المتبعة.
فبينما يمكن نشر أعماله المبكرة حول المجتمع الاستهلاكي والاقتصاد السياسي للعلامة والمحاكاة والصور، وانهيار الظواهر التي تم فصلها سابقًا في الفلسفة النقدية والنظرية الاجتماعية، فإنّه يذهب الكثير من أعماله بعد الثمانينيات بوعي ذاتي تمامًا إلى ما هو أبعد من التقليد الكلاسيكي، وفي معظم المقابلات التي أجريت في العقد الماضي ينأى بودريار بنفسه عن الفلسفة النقدية والنظرية الاجتماعية مدّعيًا أنّ طاقة النقد قد تبددت.
وهكذا يظهر بودريار في وقت لاحق كمنظر متعدد التخصصات لنهاية الحداثة الذي ينتج إشارات لعصر ما بعد الحداثة الجديد وهو دليل مهم وإنّ لم يكن جديرًا بالثقة للعصر الجديد، ويمكن للمرء أن يقرأ عمل بودريار بعد السبعينيات باعتباره خيالًا علميًا يتنبأ بالمستقبل من خلال المبالغة في الميول الحالية، وبالتالي يقدم تحذيرات مبكرة حول ما قد يحدث إذا استمرت الاتجاهات الحالية.
ليس من قبيل الصدفة أنّ بودريار هو من هواة الخيال العلمي، وقد أثّر هو نفسه على عدد كبير من كتاب الخيال العلمي المعاصرين وصانعي الأفلام في العصر المعاصر، بما في ذلك المصفوفة (The Matrix) في عام 1999 حيث تم الاستشهاد بعمله.
ومع ذلك في ضوء مبالغة في الانفصال المزعوم عن الحداثة فمن الغموض ما إذا كانت أفضل عقدين من العمل لبودريار يمكن قراءتها على أنّها خيال علمي أو نظرية، ومن الواضح أنّه يريد أن يكون له كلا الاتجاهين حيث يعتقد المنظرون الاجتماعيون أنّه يقدم وجهات نظر بارزة حول الحقائق الاجتماعية المعاصرة، وأنّ بودريار يكشف عما يحدث بالفعل ويخبره كما هو.
ومع ذلك يتم تشجيع المزيد من علماء الاجتماع المعادين للسخرية على الاستمتاع بقصص بودريار وخطابه التجريبي وألعابه، وبالمثل يشجع أحيانًا الميتافيزيقيين الثقافيين على قراءة أعماله على أنّها انعكاسات جادة على حقائق عصرنا، بينما يغمز جانبًا على أولئك المشككين في مثل هذه التعهدات، وتثير كتابات بودريار الفلسفية الفلاسفة للدفاع عن مواقفهم ضده وإعادة التفكير في بعض الأسئلة التقليدية في ضوء الحقائق المعاصرة.
وبالتالي من الصعب تحديد ما إذا كان من الأفضل قراءة بودريار باعتباره خيالًا علميًا وأبًا أو فلسفة ونظرية اجتماعية وميتافيزيقيا ثقافية، وما إذا كان ينبغي قراءة أعماله بعد السبعينيات تحت علامة الحقيقة أو الخيال، ففي وقت لاحق تحتوي الاستكشافات النقدية المبكرة لبودريار لنظام الأشياء والمجتمع الاستهلاكي على بعض أهم مساهماته في النظرية الاجتماعية المعاصرة، فتحليله في منتصف السبعينيات للطفرة الدراماتيكية التي تحدث داخل المجتمعات المعاصرة وظهور نمط جديد من المحاكاة، والذي رسم آثار وسائل الإعلام والمعلومات على المجتمع ككل وهو أيضًا أصلي ومهم.
ولكن في هذه المرحلة من عمله يقع بودريار فريسة للحتمية التكنولوجية والمثالية السيميائية، التي تفرض تقنية مستقلة ولعب الإشارات التي تولد مجتمعًا من المحاكاة التي تخلق استراحة ما بعد الحداثة وانتشار العلامات والنظارات والمحاكاة، حيث يمحو بودريار المجالات المستقلة والمتباينة للاقتصاد والنظام السياسي والمجتمع والثقافة التي تطرحها النظرية الاجتماعية الكلاسيكية لصالح نظرية تفجيرية تتخطى أيضًا الحدود التأديبية، وبالتالي مزج الفلسفة والنظرية الاجتماعية في شكل أوسع من التشخيص الاجتماعي واللعب الفلسفي.
في التحليل النهائي ربما يكون بودريار أكثر فائدة كمستفز، يتحدى ويضع تقليد الفلسفة الكلاسيكية والنظرية الاجتماعية موضع تساؤل أكثر من كونه شخصًا يقدم مفاهيم وأساليب يمكن تطبيقها في التحليل الفلسفي أو الاجتماعي أو الثقافي، ويدّعي أنّ موضوع النظرية الاجتماعية الكلاسيكية -الحداثة- قد تم تجاوزه من قبل ما بعد الحداثة الجديدة، وبالتالي فإنّ الاستراتيجيات النظرية البديلة وأنماط الكتابة وأشكال النظرية ضرورية.
في حين أنّ عمله في المحاكاة وانفصال ما بعد الحداثة من منتصف السبعينيات إلى الثمانينيات يقدم نظرية نموذجية لما بعد الحداثة وتحليل لما بعد الحداثة كان لهما تأثير كبير، وأنّه على الرغم من المبالغة في استخدامها لا تزال مفيدة في تفسير الاتجاهات الاجتماعية الحالية، ويمكن القول إنّ عمله الأخير هو أكثر أهمية الأدبية.