فلسفة بوذا في نظرية الكارما والولادة

اقرأ في هذا المقال


نظرًا لأنّ البوذية تدور حول التحرر من المعاناة بحيث يعتبر الإيمان بالذات سببًا للمعاناة، فإنّ استئصال هذا الاعتقاد هو مشروع مركزي للفلسفة البوذية، وعند تحديد الذات التي يُنكر وجودها حيث إنّها الذات التي نعتبرها غريزيًا جوهر وجودنا، وإنّه الشيء الذي يستمر ككيان واحد طوال حياتنا (وفي الحياة الآخرة أو الحياة التالية إذا كنت تؤمن بمثل هذه الأشياء)، وإنّه موضوع تجربتنا ووكيل أفعالنا ومالك جسدنا وعقلنا وحامل صفاتنا الأخلاقية والمرجع النهائي لكلمة (أنا).

رفض بعض البوذية لعقيدة اللاذات:

يدّعي الفلاسفة البوذيون بأنّه ذلك غير موجود بهذه الطريقة، وينكرون وجود بعدين أي بعد الوقت وبعد المتزامن، مما يعني أنّ البوذيين ينكرون أنّ كل شيء سيحتفظ بهويته مع مرور الوقت (هذا هو مبدأ عدم الدوام الشامل)، وحتى في بالنظر إلى اللحظة لا يوجد توحيد لما نحن عليه، ولا يوجد شيء بداخلنا يمكنه الإجابة على الأسئلة التي اعتدناها على التنظيم الذاتي.

بالإضافة إلى بعض البوذيين اعتقد الهنود الكلاسيكيون ذوو النظريات والعقيدة الذاتية أيضًا أنّ هذه المعارضة كانت مقنعة، ولكن بين هؤلاء البوذيين لم يؤد ذلك إلى رفض الذات فحسب بل أدى أيضًا إلى عقيدة إعادة الميلاد، وهذا رد الفعل تاريخيًا غير معروف جيدًا بين البوذيين من شرق آسيا وهو أمر شائع بين البوذيين الغربيين اليوم، ومع ذلك فإنّ الدليل على التناسخ والكارما السابق لبوذا يبدو قويًا جدًا.

أنواع الخطاب في تعاليم بوذا:

ميزت التقاليد اللاحقة نوعين من الخطابات في نص تعاليم بوذا، وقد كان أحدهما موجهًا لأصحاب المنازل الذين يسعون للحصول على إرشادات من الحكماء، والآخر موجه إلى الرهبان (المتدينيين) المرتدين الذين كانوا بالفعل على دراية بتعاليمه، ويقتصر الاستخدام على الأول، لذا فهذه يمكن تفسيرها على أنّها مثال آخر على تقنيات تعليم بوذا التربوية والتي غالبًا ما تسمى (upāya).

الفكرة الأكثر تحديدًا وبشكل مشدد من قبل بوذا هو أنّ أصحاب المنازل اللذين لا يخضعون للقوانين الأخلاقية من غير المرجح أن يحققوا تقدمًا كبيرًا في وقف المعاناة، وكذلك في تعليم الكارما والولادة الجديدة (إعادة الميلاد) لأنّ التحدث بصدق سيعطي أولئك الذين يقبلونها (إحتياطًا) مبررًت ليصبحوا أخلاقيين.

لكن هذا النوع من الدفاع عن تعاليم بوذا (الأكاذيب النبيلة) لم يقبله بوذا ولم يتوافق مع الأدلة على أنّه قام بتعليمه أيضًا للرهبان، حيث أنّ ما علمه لم يكن نسخة عادية من الكارما في بعض الدوائر اليوم، فعلى سبيل المثال يجعل السلوك بدافع الكراهية الشخص أكثر عرضة لأداء سلوكيات مماثلة بدوافع مماثلة، مما يجعل بدوره أكثر عرضة لتجربة سلبية وذلك بنظر الوكيل.

ما يريد بوذا تعلّيمه بطريقة أكثر صرامة بأنّ لكل فعل عواقبه الخاصة على الوكيل (الفاعل)، ويتم تحديد جوهر السعادة والمتعة من خلال قانون السببية، وطالما استمر الفعل فإن الولادة الجديدة (إعادة الميلاد) مطلوبة، لذلك إذا تعارضت نظرية اللاذات مع تعاليم ونظرية الكارما وإعادة الميلاد فلا ينبغي حل الصراع عن طريق تقليل التزام وواجب بوذا نحو الأخير.

فلسفة بوذا في الكارما:

المصطلح السنسكريتي كارما وترجمته الحرفية (الفعل)، وهو الآن يسمى بشكل متقدم وموسع إلى حد ما بنظرية الكارما، ويمكن القول بأنّه بالمعنى الدقيق للكلمة هو الرأي القائل بتواجد ترابط سببيي بين الفعل أي الكارما (karma) والفاكهة (phala)، والفاكهة هي تجربة الفرد السعادة أو الألم أو اللامبالاة، وتعد هذه هي وجهة نظر بوذا والتي يبدو أنّه يقبلها في أكثر صورها وضوحًا، حيث يقال أنّ هناك ثلاثة أنواع من الأفعال: وهي أفعال جسدية وأفعال لفظية وأفعال عقلية.

بالرغم من ذلك يقاوم بوذا ويصر على أنّه من الممكن للفعل أن لا يوصل بالمعنى للحركة أو نوعًا من التغيير بل هو فعلًا الإرادة أو النية التي توصل في النهاية إلى التغيير، وقد أشار المؤرخ جومبريتش بأنّ هذا الإصرار من بوذا في هذا السياق يدل ويقود إلى التحول من نقطة طقسية سابقة للكارما (الفعل) نحو نقطة وضع الكارما في مجال الأخلاق، وذلك لأنّه عند النظر إلى الأفعال تحت مجهر التقييم الأخلاقي فإنّ ذلك يقودنا إلى أنّ النية لها علاقة بذلك، فعلى سبيل المثال لا يقدم الفرد على فعل تكون عاقبته اللوم أخلاقيًا كالحديث بشكل غير لبق مع من هم أكبر منه سنًا، ولكن من الممكن للأطفال والببغاوات ما قبل اللغة أن يفعلوا نفس الشيء.

إنّ الأمر المهم في التقييم الأخلاقي هو الحالة والوضع العقلي أو الذهني (إن وجدت) التي أحدثت التغيير في الجسد أو اللفظ أو العقل، عندئذ يمكن القول إنّ ما حدث في هذه الحالات العقلية هو الذي يتسبب في حدوث ما تلاه من تجارب جيدة وسيئة ومحايدة، وبشكل أكثر تحديدًا فإنّ حدوث الحالات العقلية والذهنية الثلاث الملوثة هو الذي ينتج عنه ثمار الكرمية، وهناك ثلاثة ملوثات (النجاسات) وهي الرغبة والنفور والجهل، وقد قيل لنا بشكل محدد بأنّ الأفعال التي يقدم على قيامها الفاعل والتي دمرت فيه هذه المخالفات الثلاثة ليس لها نتائج كارمية بحيث مثل هذا العامل يشهد ولادته الأخيرة.

مطلوب بعض الحذر عند الوصول إلى فهم الادعاء السابق حول الملوثات (النجاسات)، ويبدو أنّ بوذا يريد أن يقودنا إلى إنّه من الممكن التصرف في غياب الرغبة أو النفور وليس فقط بدون جهل، ومع ذلك هناك صعوبة في أن نرى في الكيفية التي من الممكن أن يكون هناك فعل مقصود بدون بعض الدوافع الإيجابية أو السلبية، ولمعرفة طريقة التغلب على هذه الصعوبة يجب على المرء أن يدرك أنّه من خلال الرغبة والنفور تعني تلك الدوافع الإيجابية والسلبية على التوالي التي يتم تلوينها بالجهل، أي الجهل بالمعاناة وعدم الدوام واللاذات.

من المفترض أنّ الشخص المستنير بينما يعرف الحقيقة حول هذه الأمور، ولا يزال قادرًا على الانخراط في العمل المحفز، فلا تستند أفعالهم إلى الافتراض المسبق بأنّ هناك (أنا) يمكن أن يكون لتلك الأفعال أهمية بالنسبة لها، فالجهل فيما يتعلق بهذه الأمور يديم الولادة الجديدة وبالتالي المزيد من فرص المعاناة الوجودية ومن خلال تسهيل بنية تحفيزية تعزز جهل الفرد، ويمكننا الآن أن نرى كيف يمكن النظر إلى الالتزام بأخلاق الفطرة السليمة كخطوة أولية على طريق وقف المعاناة.

في حين أنّ وجود الجهل يجعل كل الأفعال -حتى تلك التي تعتبر جيدة من الناحية الأخلاقية- قوية بشكل كارمي، فإنّ تلك الأفعال التي تعتبر عادة شريرة من الناحية الأخلاقية هي بشكل خاص معززات قوية للجهل، من حيث أنّها تنبع من افتراض أنّ رفاهية الوكيل لها أهمية قصوى، في حين أنّ الاعتراف بالقيمة الأخلاقية للآخرين قد لا يزال ينطوي على تصور بوجود (أنا)، إلّا أنّه مع ذلك يمكن أن يشكل تقدمًا نحو تفكك الشعور بالذات.

الطريق الأوسط والرد على اعتراض عقيدة اللاذات:

قد يساعدنا هذا الإنتقال إلى موضوع ثانوي حول ما يريد بوذا فيما يعنيه بمفهوم الكارما، وذلك في وجهة نظر لكيفية التي من الممكن فيها استخدام  نهج وأسلوب الطريق الأوسط للرد على الاعتراض على عقيدة عدم الذات (اللاذات) من الولادة الجديدة، فقد كان هذا الاعتراض هو أنّ المكافأة والعقاب الذي تولده الكارما عبر الحياة لا يمكن أبدًا استحقاقهما في غياب الذات المتناقلة، وتتضمن استراتيجية الطريق الأوسط بشكل عام تحديد ورفض افتراض مشترك بين زوج من وجهات النظر المتطرفة، وفي هذه الحالة ستكون الآراء:

1- أنّ الفرد في الحياة اللاحقة يستحق ويستوجب الفاكهة الناتجة عن الفعل في حياته السابقة.

2- أنّ هذا الفرد لا يستوجب الفاكهة.

3- أحد الادعاءات المشتركة بين رأي رقم 1 ورقم 2 هو أنّ الأفراد يستحقون المكافأة والعقاب بالاعتماد على الصفة الغالبة الأخلاقية لأفعالهم، وقد ينكر المرء هذا الافتراض، ولكن هذا سيكون بمقام العدمية الأخلاقية، ومن المعلوم إنّ الطريق الأوسط يقوم على تجنب العدمية (مثل الإبادة).

من الممكن أن يكون الخيار الواعد هو عد الاعتراف بتواجد أشياء وذلك مثل الأفراد الذين يستطيعون تحمل صفات أخلاقية مثل الصحراء، ولا بد أنّ هذا ما أراد بوذا أن يعنيه في الوقت الذي أكد فيه أنّ الفرد السابق واللاحق ليسا متماثلين ولا مختلفين، وبما أنّ أي شيئين متواجدين فإنّه يجب أن يكونا متطابقين أو مختلفين، ونتيجة لذلك يعد القول عن الفردين أنّهما ليسا متطابقين أو مختلفين لا يعني أنّهما غير موجودين بالمعنى الدقيق للكلمة.

يعد هذا أحد الخيارات الواعدة الأكثر وذلك لأنّه يبتعد العدمية الأخلاقية، ولأنّه يسمح للمرء أن يؤكد أنّ الأفراد وخصائصهم وصفاتهم الأخلاقية حقيقية تقليديًا، ولقول هذا يعني أنّه بالنظر إلى اهتماماتنا وميولنا والقيود المعرفية فإننا نقوم بعمل أفضل في تحقيق هدفنا -تقليل الألم والمعاناة بشكل عام- عن طريق التصرف كما لو كان هناك أفراد يتمتعون بخصائص مهمة أخلاقياً.

الكارما والتسلسل السببي:

في النهاية هناك فقط كيانات وأحداث غير شخصية في تسلسل سببي والتي قد تؤدي إلى حدوث وتسبب للمعاناة:

1- الجهل.

2- أنواع الرغبات التي يسهلها الجهل.

3- نية تشكلت على أساس هذه الرغبة.

4- فعل جسدي أو لفظي أو عقلي.

5- شعور باللذة أو الألم أو اللامبالاة.

الادعاء هو أنّ هذا الموقف يُنظر إليه بشكل مفيد على أنّه على سبيل المثال الشخص الذي يقوم بعمل سيء بسبب جهله بالطبيعة الحقيقية للأشياء، ويتلقى الفاكهة غير السارة التي يستحقها في الحياة التالية ويتألم من خلال استمراره أي عجلة (saṃsāra)، ومن الجيد هذه الطريقة في التفكير في الموقف وذلك لأنّه يساعدنا على تحديد ولمس الأماكن الجيدة والمناسبة للمساهمة لمنع حدوث الألم في والوقت القادم (الفعل الشرير) والمعاناة في المستقبل (الجهل).

لا بد أنّه من غير المعقول ومن الصعب جدًا تصديق وتأييد أنّ نظرية الكارما والولادة الجديدة متواجدة بالشكل الذي يدّعي فيه بوذا، ويقال أنّه يمكن تأكيد وجودهم من قبل أولئك الذين طوروا قوة استعادة المعرفة من خلال تقنية اليوغا المتقدمة، ولكن هذا لا يفيد أولئك الأفراد الذين ليسوا مؤمنين بأنّ طريقة التأمل أسلوب موثوق للمعرفة، ولكن من الممكن القول بشيء من التأكيد هو أنّ الكارما والولادة الجديدة تتطابق مع عدم الذات (اللاذات)، وإعادة الولادة دون التناسخ أمر ممكن منطقيًا.


شارك المقالة: