فلسفة بيتي في مقال عن الحقيقة

اقرأ في هذا المقال


يبدأ الفيلسوف جيمس بيتي مقال عن الحقيقة بشكل كافٍ كما هو متوقع، بتعريف -ماذا أيضًا؟- الحقيقة، ويعترف بيتي بأنّ الحقيقة تتطابق مع ما (يقرر دستور طبيعتنا أن نصدقه)، ويتم تحديد الباطل مع ما يحدد دستور طبيعتنا عدم تصديقنا، ويتم التمييز بين الفطرة السليمة والعقل من حيث الطريقة التي يتم بها فهم فئات مختلفة من الحقائق.

ما هي الفطرة السليمة؟

يتم تحديد الفطرة السليمة على أنّها تلك القوة التي من خلالها ندرك الحقيقة البديهية، في حين أنّ العقل هو تلك القوة التي من خلالها ندرك الحقيقة كنتيجة لإثبات، ومع وضع هذه التعريفات يقدم بيتي بشكل آمن أطروحة المقال الرئيسية وهي الفطرة السليمة هي الحكم النهائي للحقيقة، ويجب أن يخضع العقل لها، ويقال لنا إنّ كل التفكير السليم يعتمد على مبادئ الفطرة السليمة.

ويوضح بيتي ذلك باختصار بإنّ إملاءات الفطرة السليمة هي فيما يتعلق بالمعرفة البشرية بشكل عام، وما هي بديهيات الهندسة فيما يتعلق بالرياضيات، وذلك على افتراض أنّ هذه البديهيات خاطئة أو مشكوك فيها فإنّ كل التفكير الرياضي يقع على الأرض، وبافتراض أنّ ما يمليه الفطرة السليمة خاطئ ومخادع، فإنّ كل العلم والحقيقة والفضيلة لا طائل من ورائه.

فلسفة بيتي في مبادئ الفطرة السليمة:

ما هي بديهيات الفطرة السليمة، وهذه المبادئ الأساسية التي يقوم عليها كل تفكير سليم؟ ليس من الضروري مناقشة جميع المبادئ المدرجة في كتالوج بيتي للفطرة السليمة، ولغرض التوضيح يجب أن تكفي عينة تمثيلية من أربعة مبادئ للفطرة السليمة:

1- دليل الإدراك (أو الحس الخارجي) ليس خاطئًا، ولكنه موثوق بشكل أساسي.

2 كل ما يبدأ في الوجود ينطلق من سبب ما.

3 الطبيعة موحدة.

4- الشهادة البشرية جديرة بالثقة بشكل أساسي.

مسلحًا بترسانة المبادئ هذه يستطيع بيتي الآن بثقة الدخول إلى القوائم ضد مجموعة متنوعة من الأعداء الفلسفيين الهائلين، واستخدم بيتي مبدأ:

1- ضد المتشككين (سواء كانوا ديكارتيين أو هومانيين)، وكذلك ضد المثاليين في بيركلي.

2- المبدأ ضد النقاد الملحدين للحجج الكونية.

3- مبدأ ضد المشككين الهيومنية حول الاستقراء.

4- المبدأ الرابع ضد المستهزئين من هيوم في المعجزات.

نقد فلسفة بيتي للفطرة السليمة:

إذا كان بيتي محقًا بشأن الفطرة السليمة فإنّ الكثير (إن لم يكن كل) بأنّ الفلسفة الحديثة خاطئ، ويكمن الخطأ الأساسي للحديثين في ميلهم إلى جعل العقل وليس الفطرة السليمة هو الحكم النهائي أو الحكم على الحقيقة، فالعقل هو مغرور وقح ويجهل مكانته الصحيحة ويخزي نفسه برفضه الخضوع للسلطة (في شكل الفطرة السليمة)، ولا يمكن أن يؤدي هذا العصيان إلّا إلى الفوضى والكارثة والارتباك.

فيوضح بيتي ذلك بأنّه عندما يغزو العقل حقوق الفطرة السليمة، ويفترض أنّه يحكم على تلك السلطة التي تتصرف من خلالها فلا بد أن يترتب على ذلك الهراء والارتباك، وسيأتي العلم قريبًا بلا رأس ولا ذيل ولا بداية ولا نهاية، وستزداد الفلسفة حقيرة وأتباعها بعيدًا عن معاملتهم كما في الأزمنة السابقة على أساس المشعوذين، وسيعتقدون من قبل المبتذلين وكل رجل ذي حس على أنّهم أفضل قليلاً من الحمقى الصريحين.

فلسفة التفريق بين الفطرة السليمة والمتظاهرة:

لذلك يحتقر الفلاسفة الفطرة السليمة على مسؤوليتهم، ولكن كيف لنا أن نميّز بين المبادئ الحقيقية للفطرة السليمة والمتظاهرة؟ وهل يقترح بيتي أنّ أي قناعة عزيزة أو فكرة ثابتة لا أستطيع إثباتها تلقائيًا يمكن اعتبارها إملاءً للفطرة السليمة؟ ويسعى إلى تزويدنا بالمعايير أو العلامات التي يمكن من خلالها تحديد المبادئ الحقيقية للفطرة السليمة:

1- نميل بطبيعتنا بشكل لا يقاوم إلى الإيمان بمبادئ الفطرة السليمة، حيث إنّ ارتباطنا القوي بهم وكونها عفوية وشبه غريزية، ولا يمكن تدميره بالحجة الفلسفية مهما كانت عبقرية.

2- مبادئ الحس السليم مقبولة عالميا، بعيدًا عن كونها تحيزات خاصة بزمان أو مكان أو ثقافة أو طائفة أو طبقة معينة، فقد آمن بها جميع الناس تقريبًا في جميع الأعمار.

3- لا يمكن إثبات مبادئ الفطرة السليمة لأنّها أساسية أو رئيسية من الناحية المعرفية، ولا يمكن تبريرها بالرجوع إلى بعض الافتراضات الأكثر وضوحًا لأنّه لا يوجد أي منها.

4- مبادئ الفطرة السليمة هي افتراضات لا غنى عنها لسلوكنا وممارستنا، ولا يمكننا أن نعيش أو نتصرف بحكمة ما لم نفترض أنّ حواسنا موثوقة، وأنّ الشهادة البشرية يمكن أن تكون مصدرًا للمعرفة، وأنّ الماضي سوف يشبه المستقبل وما إلى ذلك، وأي شخص يشك في هذه المبادئ أو ينكرها فعليًا سيضع نفسه على قدم المساواة مع المجنون أو الأحمق.

هنا قد يُسأل ما الطريقة التي تحسن بها مقالة بيتي عن الحقيقة على تحقيق توماس ريد السابق في العقل البشري حول مبادئ الفطرة السليمة في عام 1764؟ فالإجابة المختصرة هي أنّها لا تفعل ذلك حيث يعترف بيتي بحرية أنّه مدين بشدة لريد، ومع ذلك فإنّ المقال يختلف عن التحقيق في أحد الجوانب الواضحة، أي إنّ مسالك بيتي أكثر قسوة وصعوبة من أي شيء صاغه ريد على الإطلاق.

حيث يكتب ريد باحترام عن خصومه ويميل بيتي إلى التنديد بهم وتشويه سمعتهم، كما يختتم ريد أفكاره الخفية في نثر أستاذي مقيد، ويتم تقديم حجج بيتي البسيطة مع طحال وحيوية الخطيب المولود، وتعكس هذه التناقضات اختلافًا أساسيًا بين اثنين من المدافعين عن الفطرة السليمة، على عكس ريد فإنّ بيتي هو أولاً وقبل كل شيء عالم أخلاقي ومدافع، كما إنّه غير مهتم بالدفاع عن أطروحة فلسفية دقيقة أو متقنة.

بدلاً من ذلك يدافع بيتي عن قضية نبيلة (وإن كانت غامضة التعريف)، وهي قضية الحقيقة والفضيلة والبشرية، حيث تُرجمت قضية بيتي إلى مصطلحات أكثر واقعية (لكنها دقيقة)، وهي تحويل المعارضة الفلسفية إلى فهم يهودي مسيحي واسع للطبيعة البشرية، ووفقًا لهذا الفهم فإنّ البشر هم مخلوقات حرة ولكنها محدودة مخلوقة على صورة إله أو خالق صالح، وأنّنا لسنا متوحشين ولا الآلهة فنحن نحتل مكانة وسيطة في الخلق ونحن أكثر ملاءمة للعمل من التخمين.

كما أنّه نظرًا لأنّ ملكاتنا المعرفية وهبة من الله فقد نثق في تحررها، وبشرط أن نعترف بمحدوديتها ونمارسها في ظل ظروف تحدد حالتنا الوسطى المتواضعة (على حد تعبير ألكسندر بوب)، كما كانت استراتيجية بيتي الجريئة في المقال هي القول بأنّ هذه الأفكار المألوفة حول الطبيعة البشرية لا يمكن تعويضها لأنّها تستند إلى أساس متين لا يقبل الجدل من الفطرة السليمة (بدلاً من الإثبات الفلسفي)، وكان هذا كتابًا مناسبًا لطمأنة القارئ المسيحي المتدين ولكن الخجول، لأنّه أعلن بثقة أنّ الشك الهيومي -والجزء الأكبر من الفلسفة الحديثة- كان أكثر ملاءمة للسخرية من الخوف.


شارك المقالة: