في أول وأشهر تجسيد له يعد عدم القدرة على اتخاذ القرار أحد أهم محاولات الفيلسوف جاك دريدا لحل مشكلة الثنائيات، أو بشكل أكثر دقة للكشف عن الكيفية التي يعانون منها دائمًا بالفعل، وغير قابل للتقرير وهناك العديد منها في التفكيك، وهو شيء لا يمكن أن يتوافق مع قطبية الانقسام (على سبيل المثال، الحاضر أو الغائب، العلاج أو السم، والداخل أو الخارج)، فعلى سبيل المثال يبدو أنّ شخصية الشبح ليست حاضرة أو غائبة أو أنّها حاضرة وغائبة في نفس الوقت.
فلسفة دريدا في القرار:
إنّ دريدا لديه ميل متكرر لإنعاش المصطلحات في سياقات مختلفة ويعود مصطلح عدم القدرة أيضًا إلى التفكيك لاحقًا، وفي الواقع لتعقيد الأمور يعود عدم القدرة على اتخاذ القرار في شكلين يمكن تمييزهما، وغالبًا ما يصر دريدا في عمله الأخير على أنّ شرط إمكانية الحداد والعطاء والتسامح وكرم الضيافة، وفي استكشافاته لهذه (aporias) الممكن-المستحيل يصبح غير قابل للتقرير ما إذا كان العطاء الحقيقي.
تتحد فلسفة دريدا اللاحقة أيضًا من خلال تحليله لنوع مماثل من عدم القدرة على اتخاذ القرار المتضمن في مفهوم القرار نفسه، وفي هذا الصدد يقترح دريدا بانتظام أنّ القرار لا يمكن أن يكون حكيمًا أو يُطرح بشكل أكثر استفزازًا، وأنّ لحظة اتخاذ القرار يجب أن تكون في الواقع جنونية، وبالاعتماد على كيركيغارد يخبرنا دريدا أنّ القرار يتطلب قفزة غير قابلة للتقرير تتجاوز كل الاستعدادات السابقة لذلك القرار، ووفقًا له فإنّ هذا ينطبق على جميع القرارات وليس فقط تلك المتعلقة بالتحول إلى الإيمان الديني الذي يشغل كيركيغارد.
ولطرح المشكلة بطريقة عكسية قد يُقترح أنّه بالنسبة إلى دريدا فإنّ جميع القرارات هي إيمان وإيمان ضعيف في ذلك، ونظرًا لأنّ الإيمان والقرار لم يكن ضعيفًا فلن يكونا إيمانًا أو قرارًا على الإطلاق، وقد يبدو هذا الوصف للقرار على أنه لحظة جنون يجب أن تتجاوز العقلانية والتفكير الحسابي متناقضًا، ولكن قد يتم الاتفاق مع ذلك على أنّ القرار يتطلب قفزة إيمانية تتجاوز مجموع الحقائق.
ولا شك أنّ الكثيرين منا يعانون من صعوبة اتخاذ القرار وهذه الحقيقة النفسية تساعد، وبالنسبة لمنتقديه تحفز دريدا أيضًا على مناقشة القرار كما يظهر في نصوص مثل هبة الموت والتفكيك وإمكانية العدالة وداعًا إلى إيمانويل ليفيناس وسياسة الصداقة.
في وداعًا إلى إيمانويل ليفيناس يجادل دريدا بأنّ القرار يجب أن يعود دائمًا إلى الآخر، حتى لو كان الآخر داخل الموضوع، ويجادل في أنّ المبادرة التي تظل (لي) محضًا وببساطة (لي) ستظل قرارًا، وإنّ نظرية الموضوع غير قادرة على تفسير أدنى قرار، لأنّه كما يسأل بلاغيًا: “لن يكون لدينا ما يبرر رؤيتنا هنا لتكشف اللزوم الأناني، والانتشار التلقائي والتلقائي للمسندات، أو الاحتمالات المناسبة لموضوع ما دون التمزق الذي يجب أن يحدث في كل قرار نسميه مجانًا؟”.
بمعنى آخر إذا تم تصور القرار على أنّه يتبع ببساطة سمات شخصية معينة فلن يكون قرارًا حقًا، ومن ثم فإنّ دريدا يصر مرة أخرى على ضرورة تحقيق قفزة تتجاوز التفكير الحسابي، وتتجاوز موارد بعض الموضوعات المستقلة التي تفكر في المسألة المطروحة، ويجب أن يستدعي القرار ما هو خارج عن سيطرة الشخص المعني، وإذا كان القرار مثالًا على مفهوم مستحيل في نفس الوقت ضمن منطقه الداخلي ومع ذلك فهو ضروري، إذن ليس فقط تحفظنا على اتخاذ قرار مقنع فلسفيًا بل ربما يكون أيضًا مميزًا.
دريدا وفلسفة التردد:
في الواقع وُصِف عمل دريدا على أنّه (فلسفة تردد) وأشهر تعبيراته الجديدة الاختلاف، حيث تؤكد صراحة على التأجيل مع كل التسويف الذي يوحي به هذا المصطلح، وعلاوة على ذلك في مقالته الأولى بعنوان العنف والميتافيزيقيا يقترح دريدا أيضًا أنّ القراءة التفكيكية الناجحة مشروطة بتعليق الاختيار حيث على التردد بين الانفتاح الأخلاقي والكلية المنطقية.
على الرغم من أنّ دريدا قد اقترح أنّه متردد في استخدام مصطلح (الأخلاق) بسبب الارتباطات المنطقية، فقد تم دفع المرء إلى استنتاج أنّ السلوك الأخلاقي (لعدم وجود كلمة أفضل) هو نتاج التأجيل والانفتاح إلى الأبد، وإلى الاحتمالات بدلاً من اتخاذ موقف نهائي، وتتجلى مشكلة عدم القدرة على القرار أيضًا في النصوص الحديثة بما في ذلك هدية الموت.
ففي هذا النص يبدو أنّ دريدا يدعم التضحية بمفهوم معين للأخلاق والعالمية من أجل مفهوم التفرد الراديكالي الذي لا يختلف عن ذلك الذي يتضح من التضحية المفرطة الأخلاقية، ولتمثيل موقف دريدا بشكل أكثر دقة تتمثل المسؤولية الحقيقية في التأرجح بين متطلبات ما هو آخر تمامًا، فالمسؤولية هي تحمل هذه المحاكمة للقرار غير القابل للتقرير، حيث أنّ الاستجابة لنداء شخص معين تتطلب حتمًا القطيعة من الآخرين واحتياجاتهم المجتمعية.
مهما كان القرار الذي قد يتخذه المرء وفقًا لدريدا لا يمكن تبريره بالكامل، وبطبيعة الحال فإنّ تأكيد دريدا على عدم القدرة على اتخاذ القرار المتأصل في جميع عمليات صنع القرار لا يريد أن ينقل الخمول أو هدوء اليأس، وقد أصر على أنّ جنون القرار يتطلب أيضًا إلحاحًا وهطول الأمطار، ومع ذلك يوصف ما تم إجراؤه بأنّه محاكمة عدم القدرة على اتخاذ القرار، وما ينطوي عليه تحمل هذه التجربة يبدو أنّه كائن مرهق نسبيًا.
في مقابلة مع ريتشارد بيردسورث وصف دريدا مشكلة عدم القدرة على اتخاذ القرار على النحو التالي: “مهما كان الشخص حريصًا في الإعداد النظري للقرار، فإنّ لحظة القرار إذا كان هناك قرار يجب أن تكون غير متجانسة مع تراكم المعرفة”، ويضيف بأنّه بخلاف ذلك لا توجد مسؤولية، وبهذا المعنى لا يجب على الشخص الذي يتخذ القرار فقط ألّا يعرف كل شيء القرار، وإذا كان هناك قرار يجب أن يتقدم نحو مستقبل غير معروف والذي لا يمكن توقعه.
هذا الإيحاء بأنّ القرار لا يمكن أن يتوقع المستقبل هو بلا شك غير بديهي إلى حد ما، ولكن رفض دريدا للتوقع ليس فقط رفضًا للفكرة التقليدية المتمثلة في اتخاذ القرار على أساس الموازنة وتمثيل خيارات معينة داخليًا، ومن خلال اقتراح أنّ التوقع غير ممكن، فهو يقصد توضيح النقطة الأكثر عمومية بأنّه بغض النظر عن الطريقة التي قد نتوقع بها أي قرار يجب أن يؤدي دائمًا إلى تمزيق تلك الأطر الاستباقية.
كما يجب أن يكون القرار مختلفًا جوهريًا عن أي استعدادات سابقة له، كما يقترح دريدا في كتابه سياسة الصداقة يجب أن يفاجئ القرار ذاتية الذات، وبإخراج هذه القفزة بعيدًا عن التفكير الحسابي يجادل دريدا بأنّ المسؤولية تتكون.