فلسفة دولوز في أعماله الأدبية

اقرأ في هذا المقال


عمل الفيلسوف جيل دولوز في الفنون ولم يتوقف عن تذكير القارئ ولا ينبغي فهمه كنقد أدبي أو فيلم أو نظرية فنية، وبالحديث عن الثمانينيات التي كتب خلالها عن الفنون بشكل شبه حصري قال ما يلي: “لنفترض أنّ هناك فترة ثالثة عملت فيها على الرسم والسينما، ولكني كنت أكتب الفلسفة“، ويتوافق هذا مع أهداف تجريبية دولوز لفهم الفلسفة على أنّها لقاء (مع عمل وفلسفي أو فني وموضوع وشخص) من خلاله ومفاهيم غير موجودة مسبقًا.

فلسفة دولوز والأدب:

يمكن تجميع كل أعمال دولوز عن الفنانين تحت عنوان إنشاء مفاهيم فلسفية جديدة تتعلق على وجه التحديد بالعمل المطروح، ولكنها تربط هذه الأعمال أيضًا بالآخرين بشكل عام، وليست فلسفة للفنون في حد ذاتها بل لقاء فلسفي مع أعمال وأشكال فنية محددة.

إحدى السمات التي تحتويها الأعمال الفنية أيضًا والتي تختلف عن العديد من كتب دولوز الأخرى وهي الاهتمام بتصنيف العلامات، وفي أعماله بروست وعلامات وفرانسيس بيكون وكتب السينما ويحاول دولوز تطوير نهج منظم لتصنيف العلامات المختلفة، وهذه العلامات ليست لغوية لأنّها ليست عناصر نظام بحد ذاتها بل هي أنواع من الانبعاثات من عمل.

غالبًا ما يأتي دولوز للنظر في الأسئلة في ما هي طبيعة الفنان والفن؟ وبصرف النظر عن تفاصيله المحددة لهذه الأسئلة في ما هي الفلسفة؟ وهذا عمله بشكل عام، ويتجاوز هذا التوصيف النظر العام للفنانين على أنّهم أشخاص مبدعون، ويسلط الضوء على الطريقة التي يكون فيها الفن بحد ذاته خلقًا للحركة، وليس للتمثيلات: أي شيء جديد جذريًا وتأثيرًا وحركة قوة أو رغبة.

في حين أنّ التقليد الغربي السائد من أفلاطون إلى هايدجر يضع الفن في علاقة بالحقيقة، ولكن يصر دولوز في كل حالة على حجة نيتشه، وأنّ العمل الفني له علاقات مع القوى فقط وأنّ الحقيقة هي مشتق تشكيل ثانوي: أي الفن نشط، وفي سجل آخر يقترح دولوز أنّ الفنانين هم أنفسهم مخلوقون وضمن الفكر، ويجب أن يكونوا مثقفين ومصابين بقوى تفوقهم حتى يتطوروا إلى درجة الإبداع، وهذه القوى بدورها مسؤولة عن الضعف المتكرر للفنانين والمفكرين.

في حين أنّ العمل الفني يتناسب مع قوى الحياة العاملة، فإنّ الفنان نفسه قد عانى من الكثير وهذا يرهقهم ويغضبهم، كما يصر دولوز على أنّ الفنان هو قبل كل شيء شخص يخلق طرقًا جديدة للوجود وإدراكًا للزيادة في التردد والقوة طوال مسار نصوصه حول الفن والفنانين.

كتب دولوز كثيرًا عن الأدب طوال حياته المهنية، بصرف النظر عن تكريس أعمال كاملة لبروست والعلامات  والبرودة والقسوة وكافكا: نحو أدب ثانوي، وجزء كبير من منطق الإحساس إلى لويس كارول فقد تعامل أيضًا بشيء من التفصيل مع مجموعة واسعة من الشخصيات مثل فرانسيس سكوت كي فيتزجيرالد وهيرمان ملفيل وصمويل بيكيت وأنتونين أرتود وهاينريش فون كلايست وفيودور دوستويفسكي.

فلسفة دولوز في الظواهر:

من السهل جدًا إذا رغب المرء في إرفاق وجهة نظر فلسفية بعمل مارسيل بروست، وأن يراها كظواهر للذاكرة والإدراك حيث يتم توجيه نصه الشهير البحث عن الوقت الضائع نحو فهم ما يكمن وراءه، ويعطي جوهر التجربة والذاكرة، ومن حيث الجوهر يقترح دولوز عكس طريقة الظواهر، ويقرأ عمل بروست باعتباره مضادًا للشعارات والذي يفترض بدلاً من الأنا المتعالية التي هي السمة الضرورية لكل تجربة موضوعًا سلبيًا ومتقبلًا تحت رحمة علامات وأعراض العالم.

فما الذي يحدث في الواقع في البحث عن الوقت الضائع، ونفس القصة مع اختلافات لا نهائية؟ ومن الواضح أنّ الراوي لا يرى شيئًا ولا يسمع شيئًا، ومثل عنكبوت مستقر في شبكته لا يلاحظ شيئًا ولكنه يستجيب لأدنى علامة، وبدلاً من الذاكرة فإنّ السؤال المركزي للبحث كونه قائمًا على الذات وباعتباره نتاجًا لبعض العمليات التجاوزية، فهو ابتكار لشيء لم يكن موجودًا من قبل عن طريق أسلوب أصلي فريد من نوعه في كل مرة وتفسير التجارب، ويستخدم دولوز مصطلح مناهضة الشعارات على أساس أنّ بروست.

كما يجادل ويرفض النموذج التمثيلي للتجربة المركزية للفلسفة الغربية، حيث يقارن بروست في كل مكان عالم العلامات والأعراض مع عالم السمات وعالم الهيروغليفية والأيدوجرامات مع عالم التعبير التحليلي والكتابة الصوتية والفكر العقلاني، وما يتم الطعن فيه باستمرار هو الموضوعات العظيمة الموروثة عن الإغريق مثل الفيلس وصوفيا والحوار والشعارات والهاتف، وفي المقابل يصف دولوز البحث بأنّه إعادة صياغة للفكر أي الفكر إبداعي ولا يذكرنا.

فلسفة دولوز في الماسوشية:

يظهر ماسوش في عدد قليل من كتب دولوز ولكن الأهم من ذلك في دراسته الطويلة عن البرودة والقسوة، وهذا النص المبكر هو نقد لوحدة المفهوم الإكلينيكي والجمالي (سادو-ماسوشي)، حيث يجادل دولوز هنا بأنّ هذا المفهوم الإكلينيكي يفشل في تفسير الكتابات الفعلية لماركيز دو ساد وساشر ماسوش جنبًا إلى جنب مع تكوين وحدة غير مبررة من مجموعتين مختلفتين تمامًا من الأعراض.

يعتبر دولوز ماسوش كاتبًا مهمًا ذا قوة غير عادية وسيدًا للتشويق وهو العنصر الأدبي الأساسي للماسوشية، ومع ذلك بينما أصبح دو ساد معروفًا جيدًا وتحليل كتاباته يشير دولوز إلى أنّ فهمنا الضعيف لنصوص ماسوش هو أحد المذنبين الرئيسيين في تكوين الوحدة المشوشة التي هي سادية مازوخية، وفي الواقع وفقًا لدولوز يقدم لنا طريقة جديدة لفهم الوجود عن طريق إزاحة الجنس إلى عالم القوة، وهكذا يخبرنا دولوز أنّ ماسوش كان في الحقيقة عالم أنثروبولوجيا عظيم.

نقطة تلو الأخرى يطور دولوز قراءة للكاتبين ولا سيما ماسوش مما يدل على التفاوت العميق بينهما، وإلى جانب هذا هناك تحليل لفئات الطب النفسي للسادية والماسوشية الذي يكشف عن نفس الافتقار إلى الأرضية المشتركة.

السادية المازوخية هي واحدة من هذه الأسماء الخاطئة وعواء سيميولوجي، وقد وجدنا في كل حالة أنّ ما بدا أنّه علامة شائعة تربط الانحرافين معًا تبين عند التحقيق أنّه في طبيعة مجرد متلازمة يمكن تقسيمها إلى أعراض محددة غير قابلة للاختزال للانحراف أو الآخر، وفي البرودة والقسوة يوسع دولوز أيضًا نقدًا لفرويد يشير إلى اتجاه ضد أوديب على الرغم من أنّه من الواضح أنّ نطاقه محدود أكثر.

فلسفة دولوز في فرانز كافكا وضد أوديب:

عمل دولوز كافكا: نحو أدب ثانوي والذي يمكن تمييزه عن نصوص دولوز الأخرى حول الأدب من حيث أنّه كتب مع غوتاري وهو يحمل بقوة طابع ضد أوديب، والذي نُشر قبل ثلاث سنوات فقط والمفاهيم المستخدمة هناك، ومن نواحٍ عديدة يمكن قراءته على أنّه تطور للموضوعات نفسها فيما يتعلق بعمل كافكا.

يُعد هذا النص خروجًا واضحًا عن جميع التفسيرات السائدة لكتابات كافكا، والتي تُعتبر عمومًا إما من الناحية التحليلية النفسية أو بشكل أسطوري، ويعتبر دولوز وغوتاري كافكا مؤيدًا لعلم بهيج والكتابة كطريقة لخلق خط للهروب أو التحرر من أشكال الهيمنة، ويكتبون بأنّ أسوأ ثلاثة موضوعات في العديد من تفسيرات كافكا هي تجاوز القانون وداخلية الذنب وذاتية النطق.

في المقابل قرأ دولوز وغوتاري كافكا على أنّه من دعاة جوهر الرغبة، والقانون ليس أكثر من تكوين ثانوي يحبس الرغبة في تشكيلات معينة أي البيروقراطية بالطبع، فهي المثال الرئيسي في عمل كافكا حيث تقدم المكاتب والسكرتارية والمحامون والمصرفيون أرقامًا عن الوقوع في فخ، وهكذا بالنسبة لكافكا وفقًا لدولوز وغواتاري فإنّ الأسرة هي وحدة مشتقة اجتماعياً تعمل عن طريق محاصرة تدفق الرغبة، ويتم استبدال باطن الذنب بظاهر القهر، ويتجلى هذا بشكل أفضل في تحليل القصة القصيرة الشهيرة لكافكا المسخ.

كما إنّهم يرغبون أيضًا في قراءة كافكا ليس ككاتب عبقري يعبر عن البصيرة الفائقة لبصره الداخلي ولكن ككاتب لأدب ثانوي، وهذا هو المفهوم الأساسي لقراءة دولوز وغوتاري لكافكا، فالأدب الصغير هو كتابة تأخذ لغة سائدة وتدفعها حتى تصبح لغة القوة وليس لغة الدلالة، وفي المقابل يرتبط هذا فورًا بحالة الأقليات ومجموعات الأقليات في المقام الأول، ولكن أيضًا بالمحاولات التي يقوم بها الجميع لإنشاء خط هروب خارج التكوينات الاجتماعية ذات الأغلبية أو المولود.

على هذا النحو فإنّ الأدب الثانوي هو كتابة سياسية على الفور والتي تربط النص مباشرة بالنضال السياسي، وإنّ البديل الثالث هو الطبيعة الجماعية أي الطبيعة السياسية للنطق للنموذج التقليدي للنية الذاتية وراء كلمات المؤلف، ويكتب كافكا بالنسبة لدولوز وغوتاري كعقدة في ميدان القوى وليس كعقدة ديكارتية ذات سيادة في قلعة الوعي، فإحدى السمات الواضحة لعلاقة دولوز بالأدب هي تقديره الصريح لما يسميه الأدب الأنجلو أمريكي وتفوقه على أدب أوروبا.


شارك المقالة: