فلسفة دو بوا في الاستفسار التاريخي والمعرفة الأخلاقية

اقرأ في هذا المقال


في دعاية التاريخ الفصل الأخير من إعادة الإعمار الأسود في عام 1935 يؤكد الفيلسوف وليام إدوارد بورغاردت دو بوا أنّ التأريخ العلمي، أي التأريخ الذي يحدد سجل العمل البشري بدقة و إخلاص التفاصيل، ويمكن أن يخدم غايات الإصلاح الاجتماعي، كما يمكن استخدامه كما كتب: “كقضيب قياس ودليل لمستقبل الأمم”.

حجج دو بوا في أطروحات التاريخ:

تنطلق حجة دو بوا لهذا الادعاء من خلال الدفاع عن أربع أطروحات وهي:

1- أنّ دراسة التاريخ بقدر ما تنتمي إلى علم الفعل البشري، ولا يمكنها أن تصوغ نفسها حصريًا على العلوم الطبيعية.

2- أنّ الدقة في علم تأريخ وتفسير العمل البشري تتطلب أن يعتمد المؤرخ على طريقة الفهم التفسيري، وما أسماه ماكس فيبر يفهم (Verstehen).

3- أنّ التأريخ الدقيق والسليم تجريبيًا على عكس ويبر يشير إلى المعرفة الأخلاقية.

4- أنّ معرفة الأخلاق والمسؤولية الأخلاقية الناتجة عن الدراسة العلمية للتاريخ البشري (من خلال التأريخ الدقيق) يمكن أن تسهم في الإصلاح الاجتماعي، حيث يمكن للفيلسوف والنبي استخدام تلك المعرفة لتوجيه البشرية في حل المشكلات الاجتماعية.

فلسفة دو بوا والعبودية:

ينتقد دو بوا التاريخ الذي يناقش العبودية بطريقة أخلاقية محايدة، ويصور أمريكا على أنّها لا حول لها ولا قوة والجنوب بلا لوم، بينما يشرح الاختلاف في التنمية بين الشمال والجنوب على أنّه نوع من العمل خارج القانون الاجتماعي والاقتصادي الكوني، ومثال على هذا النوع من التاريخ هو كتاب تشارلز وماري بيرد من حيث صعود الحضارة الأمريكية الذي يتعامل مع الصدام بين الشمال والجنوب كما لو كان صدامًا بين الرياح والمياه.

أوضح دو بوا في التفسير الآلي الشامل للتاريخ بأنّه لا مجال للحبكة الحقيقية للقصة، وللخطأ الواضح والشعور بالذنب لإعادة بناء عبودية جديدة للطبقة العاملة في خضم تجربة مصيرية في الديمقراطية من أجل انتصار الشجاعة الأخلاقية المطلقة والتضحية في الحملة الصليبية لإلغاء العبودية، ومن أجل جرح وكفاح الملايين من السود المنكوبين في كفاحهم من أجل الحرية ومحاولتهم دخول الديمقراطية، وهل يمكن حذف كل هذا وإلغاء نصفه في أطروحة تسمي نفسها علمية؟.

هنا مرة أخرى كما في الحفاظ على الأجناس ومتردد علم الاجتماع هو العلاقة بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، وبالنسبة إلى دو بوا للتعمير الأسود يسعى المؤرخون الذين يصوغون في استفسارتهم حصريًا على العلوم الطبيعية وإلى تحديد التماثلات السببية (القوانين الكونية) التي تحكم الأحداث البشرية، والأحداث التي يصورونها بالتشابه مع سلوك الرياح والمياه وقوى الطبيعة الأخرى.

يعتقد دو بوا أنّ المشكلة هنا ليست في الجهد المبذول لتحديد التماثلات السببية التي تحكم الأحداث البشرية، وبالأحرى مع الميل في هذا الجهد إلى إهمال المعنى الإنساني للأحداث البشرية، وبالتالي التعامل مع تلك الأحداث على أنّها قوى غير إنسانية وطبيعية تصلح لتفسير ميكانيكي بحت، والذي يعني من خلاله دو بوا التفسير بمصطلحات تجعل لا توجد إشارة إلى المعاني التي يرتبط بها الأشخاص الذين يشاركون في تلك الأحداث.

إذا كان للتاريخ أن يكون علمًا للفعل البشري وليس التظاهر بأنّه علم الطبيعة، إذن كما يعتقد دوبويز يجب أن يأخذ في الاعتبار المعاني الذاتية للأفعال والأحداث، ويشير دو بوا إلى أنّ المؤرخ لا يستطيع أن يروي قصة أعظم جهد في القرن الأعظم (كفاح العبيد السود لتحقيق الديمقراطية) دون مراعاة نفسية الوكلاء الذين دعمت أفعالهم هذا الجهد، ومن أجل أخذ علم النفس في الاعتبار هو أخذ المعنى الذاتي في الاعتبار، وبصورة أعم يصر دو بوا على أنّ مؤرخ العبودية يسأل عن ماذا تعني العبودية للمالك والمملوك.

لفهم العبودية فإنّ معرفة ما تعنيه للمالك لا يقل أهمية عن معرفة ما تعنيه للمالكين، وبمطالبة مؤرخ العبودية بالاهتمام بقصص العبيد حول العبودية من أجل معرفة ما تعنيه العبودية للعبيد، ويفترض دو بوا مسبقًا المبدأ الأساسي والمنهجي الذي يعتبره المؤرخ الأساسي هو ما أسماه ماكس ويبر (Verstehen)، أو الفهم التفسيري وليس التفسير الميكانيكي.

وفقًا لفيبر فإنّ علوم الفعل البشري بما في ذلك التاريخ وعلم الاجتماع تتحدث عن الفعل بقدر ما يعلق الفرد الفاعل معنى ذاتيًا على سلوكه سواء كان ذلك علنيًا أو خفيًا، ويجادل بأنّ أحد أهداف (Verstehen) هو منطقياً فهم الدافع الذي يحفز إجراءً ما من خلال وضع هذا الفعل في سياق مفهوم أكثر شمولاً للمعنى.

يشدد دو بوا على أهمية الفهم التفسيري لأنّه ملتزم بالرأي القائل بأنّ الحكم الأخلاقي هو عنصر حاسم في التأريخ، وهكذا بينما ينحاز دوبويز منهجيًا إلى ويبر في التأكيد على أهمية الفهم التفسيري للدراسة العلمية للتاريخ، فإنّه يرفض بشكل منهجي ادعاء ويبر بأنّ الاهتمام من جانب التاريخ بالحكم على الأفعال التاريخية باعتبارها مسؤولة أمام ضمير التاريخ والذي من شأنه أن يوقف طابعه كعلم تجريبي.

على عكس ويبر فإنّ دو بوا هو الواقعي الأخلاقي الذي يعتقد أنّ البحث التاريخي يمكن أن يمنحنا معرفة بالحقائق الأخلاقية-المعرفة، أي بالتوزيع الصحيح للمسؤولية الأخلاقية ومدى كون الأفعال صحيحة أو خاطئة، ولكن للحصول على هذه المعرفة يجب على المؤرخين فهم الفعل البشري من منظور المعاني الذاتية، لأنّهم يحتاجون إلى بعض هذا الفهم للعمل البشري لجعل تطبيقهم لمفردات التقييم الأخلاقي مفهومًا، وبالنسبة إلى دو بوا وهي مفردات تتضمن لغة الذنب والشجاعة الأخلاقية والتضحية والملايين السود المتدهورون.

يجادل دو بوا بأنّ الشرط الضروري لإمكانية اكتساب المعرفة بالحقائق الأخلاقية من خلال ممارسة المؤرخ لعلم الفعل البشري هو نهج يركز على (Verstehen) لهذه الممارسة، أو بشكل أكثر دقة نهج يشرح الأفعال البشرية من حيث دوافع الموضوعات، ويرسم دو بوا خطًا مشابهًا للحجة بعد خمس سنوات في غسق الفجر.

بالنسبة لدو بوا فإنّ وظيفة المؤرخ التظاهر كعالم في الفعل البشري وهي توضيح الحقائق لمعرفة قدر الإمكان الأشياء التي حدثت بالفعل في العالم بغض النظر عن شخصيتها الرغبات، ولكن وظيفة الفيلسوف والحكيم أو النبي كما يقول هي تفسير هذه الحقائق، أي النظر إليها من منظور رغبتنا في توجيه البشرية للقيام بالإصلاحات الاجتماعية اللازمة لمعالجة المشاكل الاجتماعية.

النبي إرميا على سبيل المثال قد يقدم حقائق عن المخالفات الأخلاقية والشعور بالذنب لتنبيه مواطنيه إلى أنّ أفعالهم تخاطر بغضب الله، وفيلسوفًا للتاريخ على سبيل المثال قد يستشهد بهذه الحقائق من أجل إرشادهم إلى المعنى، والمكتوب بشكل كبير للحبكة التي سجلها المؤرخ على وجه التحديد كما يرشد دو بوا مواطنيه إلى أنّ قصة العبودية وإعادة الإعمار التي سجلها (بصفته مؤرخًا) تعرض الخطأ الواضح والذنب والذي يميز حبكة المأساة الأرسطية.

ففي كلتا الحالتين ستكون النقطة هي نفسها أي استخدام المعرفة الأخلاقية لتحذير المواطنين من العواقب المصيرية (غضب الله والمأساة)، والتي تنتظرهم لئلا يرفضوا الالتفات إلى دروس الماضي والتغيير  والإصلاح وطرقهم.


شارك المقالة: