فلسفة روجر بيكون في العلوم التجريبية

اقرأ في هذا المقال


بعد أرسطو رأى الفيلسوف روجر بيكون أنّ كل البشر بطبيعتهم يرغبون في المعرفة، وينجذبون بشكل طبيعي نحو جمال الحكمة وينجرفون بحبهم لها، وأكدّ بيكون أنّه لضمان النجاح في التعلم من الضروري الاستفسار أولاً عن الطريقة الأنسب لها حيث توجد طرق أفضل وأسوأ للمضي قدمًا في العلوم.

بيكون وطرق اكتساب المعرفة:

ميّز بيكون في ملخصه فلسفة التأسيس (Studii Philosophiae) بين ثلاث طرق لاكتساب المعرفة وذلك من خلال:

1- السلطة.

2- العقل.

3- الخبرة.

وأوضح أنّه ليست جميع الطرق الثلاثة متساوية القيمة، فلا تكفي السلطة ولا العقل للمعرفة لأنّ الاعتماد على السلطة وحدها أنتج الإيمان ولكن ليس الفهم، في حين أنّ العقل وحده لا يستطيع التمييز بين الجمل الحقيقية والجمل التي لها مظهر المعرفة فقط.

وفقًا لبيكون يتطلب تحقيق المعرفة ثلاثة أشياء:

1- الاهتمام ببنية المادة العلمية والبدء بما هو أولًا أسهل وأكثر عمومية، ثم انتقل إلى ما هو لاحق الأكثر صعوبة والأكثر تحديدًا.

2- المضي قدمًا في استخدام أوضح الكلمات الممكنة دون التسبب في التباس.

3- للوصول إلى مستوى من اليقين يترك وراءه كل شك، ولهذا اعتبر بيكون أنّه من الأهمية بمكان توظيف الخبرة، وفيما يتعلق بترتيب التعلم تسبق الخبرة في الرياضيات.

وهكذا فإنّ السبيل الوحيد للعقل البشري للوصول إلى الحقيقة الكاملة والراحة في التأمل في الحقيقة، هو من خلال التجربة والفهم الذاتي القائم على الإدراك الحسي، واعتقد بيكون أنّ العلوم التجريبية غير معروفة فعليًا لرتبة الطلاب وملفهم، ولذلك اعتقد أنّه من الضروري أن يقدم للبابا صلاحياته وخصائصه، وهكذا وضع بيكون نظريته عن المعرفة التجريبية في الجزء السادس من كتاب العمل العظيم (Opus Maius)، مقدمًا العلم التجريبي باعتباره العلم قبل الأخير، أي في المرتبة الثانية بعد الفلسفة الأخلاقية.

تشهد العديد من كتابات بيكون على اهتمامه ليس فقط بمحتوى المعرفة (أي المواد المتاحة)، ولكن أيضًا بجودة المعرفة المكتسبة، حيث من الناحية المثالية يجب أن تكون الاستنتاجات بطريقة تخترق وتطمئن الروح ويتركها في حالة من اليقين وخالية من الشك، وهكذا عندما قال بيكون إنّه: “لا يمكن معرفة أي شيء بشكل كافٍ بدون خبرة”، فقد قصد التأكيد على الدور الذي يلعبه إدراك الحس الفردي (وخاصة الرؤية) في عملية التعلم.

بالنسبة إلى بيكون لا يشير التعلم إلى عملية اكتساب المعرفة فحسب، بل يشير أيضًا إلى عملية استعادة الحكمة التي أعطاها الله في بداية الوقت وفقدت لاحقًا بسبب الخطيئة، ولذلك فإنّ المعرفة التجريبية لها أهمية أساسية في مشروع بيكون لإصلاح الدراسات، وامتدت أهميتها وفائدتها إلى ما هو أبعد من المجال النظري لتشمل التقدم في العلوم التطبيقية والتكنولوجيا، وتؤدي بشكل مثالي إلى تحسينات واسعة في كل من الكنيسة والدولة.

فلسفة بيكون بين الخبرة والتجربة:

معنى المصطلح اللاتيني (Experienceum) هو (اختبار) أو (محاكمة)، واستخدم بيكون هذا المصطلح لتغطية مجموعة متنوعة من ممارسات الاختبار، مثل التجربة الحسية المباشرة والمستعملة والتجربة الروحية الداخلية للإضاءة الإلهية.

وقد تم استخدام التجربة أيضًا للإشارة إلى أنواع مختلفة من المعرفة العملية المرتبطة إلى حد ما بالممارسة التجريبية، وكانت فكرة التجربة أو التجارب كأساس للاستقراء أي للاستدلالات القائمة على الملاحظة ومألوفة لدى بيكون، ولكن في سياق تطوير الفهم العلمي لم يبد أنّه يوليها أهمية كبيرة، ومع ذلك في محاولاته لاكتشاف سبب قوس قزح هناك بعض العناصر الاستقرائية.

في مفهومه العلمي التجريبي لم يأخذ بيكون في الاعتبار الخبرة فقط من خلال الحواس الخارجية ومن خلال الرؤية مثلًا، وكان فهمه راسخًا في التقليد الأوغسطيني في تأكيد نوع آخر من الخبرة بجانب تلك التي توفرها الحواس الخارجية والخبرة التي تتكون من (الإضاءة الداخلية)، وبالنسبة لبيكون فإنّ التجربة من خلال الحواس الخارجية لا تكفي تمامًا لتوفير اليقين فيما يتعلق بالأجساد المادية بسبب صعوبتها، ولا تحقق أي شيء في عالم الأشياء الروحية.

لقى الآباء والأنبياء القدامى معرفتهم العلمية عن طريق هذه الإضاءة الداخلية الممنوحة إلهياً، وهكذا كانت المعرفة القائمة على التجربة وفقًا لبيكون ذات شقين وهما: فلسفي وإلهي، حيث كان الفلسفي متجذرًا في الحواس الخارجية، والإلهية متجذرة في الوحي الإلهي الذي يحدث داخليًا.

الامتيازات الثلاثة للعلوم التجريبية لدى بيكون:

كان الهدف من القسم الرئيسي من الجزء السادس من (Opus Maius) هو تحديد الأبعاد المختلفة لقيمة وفائدة العلم التجريبي، وفي نظريته ميّز بيكون بشكل صريح ودقيق بين ثلاث امتيازات أو وظائف مختلفة للعلماء التجريبي، كل منها ينتج نتائجه الخاصة، كما يشير استخدام بيكون للاسم العلمي التجريبي إلى ثلاثة أشياء مختلفة، كل منها مفيد لاستعادة التعلم ولكن بطرق مختلفة.

كان العلم التجريبي (Scientia experimentalis) أداة مستخدمة في العلوم الأخرى مثل الرياضيات أو الكيمياء وعلم بحد ذاته، وهناك ثلاثة امتيازات او كرامة:

1- الكرامة الأولى: يؤكد العلم التجريبي أو يدحض بشكل تجريبي الاستنتاجات النظرية للعلوم الأخرى يقدم الملاحظات.

2- الكرامة الثانية: أدوات اللازمة للممارسة التجريبية.

3- الكرامة الثالثة: يتحرى بنشاط في أسرار الطبيعة.

حديثًا يمكن للمرء أن يقول أنّه من خلال تقسيم العلم التجريبي إلى ثلاث شخصيات، حيث اعترف بيكون بالفرق الموجود بين العلم والتكنولوجيا.

كان الامتياز الأول أو الكرامة للعلم التجريبي وفقًا لبيكون يهدف إلى استنتاجات العلوم الأخرى، وبهذه الكرامة لم يكن هدف بيكون تقديم استنتاجات متسقة منطقيًا مع بعضها البعض، بل بالأحرى اختبار أو تحدي الادعاءات النظرية للمعرفة، وبالتالي المساعدة في عملية الوصول إلى معرفة معينة خالية من الشك.

وهكذا في كرامتها الأولى تضع العلم التجريبي الادعاءات النظرية العالمية على المحك من خلال مواجهتها مع الأشياء التجريبية الفعلية، وبذلك يكمل بحث العلم عن الحقيقة واليقين، واليقين بدوره هو وظيفة للطريقة التي يتم بها اكتساب المعرفة ويصف الحالة التي يكون فيها للعقل البشري حدس مباشر لموضوع اختباري.

وفقًا لبيكون فإن كرامة العلم التجريبي تتضمن أيضًا استنتاجات رياضية، والتي لا يمكن أن تكون معروفة بالكامل بناءً على المظاهرات وحدها لأنّها تفتقر إلى الإشارة إلى التفاصيل التجريبية الملموسة، ففي مناقشته لقوس قزح والهالة في الجزء السادس من (Opus Maius) قدم بيكون توضيحًا مفصلاً لهذه الوظيفة العلمية التجريبية، على وجه الخصوص من خلال الإشارة إلى الملاحظة وتطبيق قوانين المنظور، وقد حاول بيكون تقديم تفسير سببي لظهور قوس قزح.

الامتياز الثاني يضع العلم التجريبي أيضًا كأداة في العلوم الأخرى، ومع ذلك فهي لا تتعلق بالتجربة كمصدر للمعرفة أو اليقين كما هو موصوف في الكرامة الأولى، ففي وظيفتها الثانية تخدم المعرفة التجريبية الغرض من تطوير العلوم التأملية الأخرى إلى أقصى إمكاناتها من خلال المغامرة في المجهول، والسحر من خلال الممارسة التجريبية التي تنطوي على الأدوات.

يصبح العلم التجريبي بالنسبة إلى بيكون أداة مستخدمة في العلوم الأخرى من خلال قدرتها على اكتشاف الحقائق المخفية في هذه العلوم، أي الحقائق التي تجاوز اكتشافها اختصاص تلك العلوم، على سبيل المثال على الرغم من أنّ حياة الإنسان وصحته ينتميان إلى علم الطب، فإنّ العلم التجريبي يتجاوز مجال الطب من خلال البحث عن وسائل لإطالة العمر.

في الامتياز الثالث أعطى بيكون العلم التجريبي مكانة العلم في حد ذاته المستقل عن العلوم الأخرى، ويبحث العلم التجريبي في أسرار الطبيعة بقوته الخاصة، وتشمل وظيفتها اكتساب المعرفة بالمستقبل والماضي والحاضر الذي يتجاوز فيه حتى علم التنجيم، وإنجاز أعمال رائعة مثل تصنيع الترياق ضد السموم الحيوانية أو التقنيات التي يمكن استخدامها في الحروب.

بيكون كمتجرب:

لم تكن ممارسة بيكون التجريبية معقدة واستراتيجية مثل نظريته العلمية التجريبية، والحكم العام الذي توصل إليه العلماء بأنّ بيكون لم يفِ بوعده بتطبيق الأساليب التجريبية، وتم انتقاد إنجاز بيكون كمتجرب لأسباب عديدة بما في ذلك صمته بشأن السؤال الملموس حول كيفية إجراء التجارب في الممارسة التي حددها نظريًا.

فيما يتعلق بالمنظور فأنّه في حين أنّ نظريات بيكون لم تكن في الأساس نتيجة لممارسته التجريبية الخاصة، إلّا أنّه ما زال يشارك في بعض الممارسات التجريبية التي تتجاوز الملاحظة اليومية البسيطة، كما في حالة قوس قزح حيث أجرى ملاحظات أكثر تعقيدًا، وقد وصفت هذه الملاحظات بأنها “اختبارات هندسية”.

تضمنت ممارسة بيكون التجريبية أيضًا الملاحظات التي كان من المفترض أن توفر بيانات تجريبية تتطلب تفسيرات في سياق النظريات الموجودة، وكانت الوظيفة الأكثر شيوعًا للتجربة والخبرة، على الرغم من ذلك تتمثل في التحقق من الادعاءات النظرية التي قدمتها العلوم التأملية الأخرى.


شارك المقالة: