فلسفة كاستورياديس بين الديموقراطية اليونانية والاستقلالية

اقرأ في هذا المقال


من خلال دراسة الولادة المشتركة في اليونان القديمة للفلسفة والسياسة، يوضح الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس كيف أدى استجواب الإغريق الراديكالي للأفكار والمؤسسات الراسخة إلى ظهور مشروع الحكم الذاتي أو الاستقلالية، وإنّ نهاية الفلسفة التي أعلنتها ما بعد الحداثة تعني نهاية هذا المشروع، وتسارعت هذه الغاية الآن بسبب التوسع المميت للعلم التكنولوجي وتلاشي الصراع السياسي والاجتماعي، واستقالة المثقفين الذين يدافعون بشكل أعمى عن الثقافة الغربية كما هي أو الذين يدينونها أو يفككونها كما كانت.

الديمقراطية في اليونان القديمة:

في عام 1983 بعنوان (السياسة اليونانية وخلق الديمقراطية) جادل كاستورياديس بأنّ مؤسسات الحكم الذاتي ظهرت مرتين في التاريخ:

1- في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد.

2- في أوروبا الغربية خلال عصر التنوير.

ولا يعتبر أي من المثالين نموذجًا لمحاكاة اليوم في المؤسسات، وإذا تذكرنا أنّ وجود المؤسسات المستقلة ليس شرطًا كافيًا أبدًا للاستقلالية، فإننا ندرك أنّه لا يمكن أن يكون هناك أي شك في التعامل مع الحالات التاريخية كنماذج يجب محاكاتها، وبدلاً من ذلك ما يجعل هذه القضايا مهمة بالنسبة إلى كاستورياديس هو أنّها أمثلة حيث داخل المجتمعات التي فرضت إغلاقًا صارمًا، وتمزق الإغلاق وفتحه ويؤسس الناس بشكل متعمد قانونًا جديدًا جذريًا لأنفسهم.

يرى كاستورياديس أنّ المجتمعات تميل إلى فرض إغلاق صارم، ومع ذلك جادل كاستورياديس بأنّ اليونان بإدراكها أنّ المجتمعات الأخرى لا تعكس الطبيعة الموجودة في كل مكان، ولكنها مبدعة بشكل جذري في مؤسساتها الفريدة، وبالتالي فهمت نفسها أيضًا على أنّها إبداع ذاتي لمؤسساتها الخاصة، وقطع اليونانيون عن الإغلاق الاجتماعي الراسخ الخاص بهم ووضعوا تشريعات ذاتية واضحة.

أدى الاكتشاف اليوناني للخلق الذاتي الاجتماعي (أي قوة التأسيس الاجتماعي) إلى الإدراك الجزئي (المؤسسة) للاستقلالية على وجه التحديد، لأنّ كلاهما تخيل بشكل فعال شمولتهما المحتملة مع الآخرين كغاية (استقلالية رسمية) ومع ذلك أسس بعض المؤسسات الخاصة كدعم للإدراك الفعال للحكم الذاتي.

ومع ذلك ظل الخلق اليوناني جزئيًا وكانت مؤسساته محدودة وضيقة (على سبيل المثال استبعدوا النساء)، وكانت وجهة نظر كاستورياديس هي أنّ الشمولية المحتملة لإبداعهم (النقد المتطرف والنقد الذاتي)، والتي فهموا أنّها من صنعهم تزامنت مع المؤسسات الديمقراطية التي تم إنشاؤها كدعم لجعل الاستقلالية فعالة، وفي النهاية افتتح الإغريق تقليدًا للنقد الراديكالي وهو بالنسبة لكاستورياديس دائمًا شيء يبدأ به الاستقلالية والفلسفة.

التباين والاستقلالية:

في عام 1989 بعنوان (Done and To Be Done) كرر كاستورياديس بعض الحجج السياسية التي طورها منذ فترة عمله مع مجموعة الاشتراكية أو البربرية، وجادل بأنّ مشكلة التقاليد التي تغطي حقيقة الخلق ليست مجرد خطأ نظري، كما أنّه يتزامن على الفور مع إغلاق الواقع السياسي والأخلاقي، وقال إنّ جميع المجتمعات ذاتية الإبداع ومع ذلك فإنّ معظمها غير قادر على الإطلاق على التشكيك في معاييرها الراسخة.

في مثل هذه المجتمعات يتزامن الوضع القائم على الفور مع ما هو صالح وصحيح في أذهان الناس، مثل هذا المجتمع الذي لا يشكك في معاييره الخاصة أو لا يستطيع أن يعتبر أنّ معاييره قد أعطيت من الله والآلهة والطبيعة والتاريخ والأسلاف وما إلى ذلك، فهو مجتمع غير متجانس في معارضة المجتمعات المستقلة.

جادل كاستورياديس بأنّ التغاير ينتج عندما تُفهم الطبيعة أو الجوهر أو الوجود على أنّها تنتج القانون للكائن الحي الإبداعي أو للأفراد أو للمجتمع، ومن ناحية أخرى لم يقتصر تعريف كاستورياديس للتغاير على المعتقدات الدينية ولم يستهدفها بأي معنى خاص، وكانت أمثلة كاستورياديس في بعض الأحيان أمثلة على المعتقدات الدينية وفي أوقات أخرى أمثلة على المجتمعات المغلقة ولكن ليس بالضرورة الدينية.

وبهذه الطريقة يتخطى التمييز أي فجوة مفترضة بين المقدس والعلماني، بحيث يمكن أن تكون حتى المادية الأكثر استنارة ومعادية للدين خيالًا مهيمنًا في مجتمع غير متجانس إلى حد كبير، ففي مثل هذا المجتمع يتجدد البشر باستمرار في حالة إغلاق منهجية، وبالتالي فإنّ الشرط الضروري لمشروع الاستقلالية هو كسر هذا الانغلاق الجذري أي تمزق الاستقلالية.

من ناحية أخرى ما هو أساسي في تفسير كاستورياديس الإيجابي للاستقلالية هو أنّه لا يوجد قانون للطبيعة محدد مسبقًا للإنسان، أي أنّه لا توجد مادة أو قاعدة تحدد ما يجب أن يكون عليه أو يمكن أن يكون عليه الإنسان، ومع ذلك هذا لا يعني أنّ الإنسان ليس شيئًا على الإطلاق، أي إنّ إبداع الإنسان يعني أنّ البشر لا يستطيعون وضع معايير.

على هذا النحو يمكن للبشر دائمًا أن يطرحوا مسألة المعايير وماذا يجب أن تكون، ويمكننا دائمًا من حيث المبدأ الابتعاد عن حالة غير متجانسة، وإنّ الإبداع الراديكالي للنفسية والجماعة لا يتم طمسه أبدًا من قبل مجتمع أو مجموعة من المؤسسات الاجتماعية حتى لو كان الحكم الذاتي غائبًا بحكم الواقع، ومع ذلك من الممكن للمجتمعات والأفراد غير المتجانسين تغطية هذا الإبداع البشري إلى حد كبير لتأسيس معايير لا يمكن بالمعنى الواقعي التشكيك فيها.

نتيجة لذلك لم يحدد كاستورياديس الخلق (أو خلق الذات) بالمشروع الأخلاقي والسياسي للحكم الذاتي، وبدلا من ذلك حتى المجتمعات غير المتجانسة تخلق نفسها وتشكل نفسها بنفسها، ويوجد الاستقلال الذاتي فقط عندما نخلق المؤسسات التي من خلال استيعاب الأفراد يجب أن تسهل انضمامهم إلى استقلاليتهم الفردية ومشاركتهم الفعالة في جميع أشكال السلطة الواضحة الموجودة في المجتمع.

وبالتالي فإنّ الاستقلالية لا تعني فقط أنّه يمكن التشكيك في التقليد، أي أنّه يمكن طرح سؤال الصالح ولكننا أيضًا نستمر في جعل الأمر ممكنًا لأنفسنا أن نستمر في التساؤل في ما هو الخير؟ وهذا الأخير يتطلب أن نؤسس دعمًا مؤسسيًا للاستقلالية.

بالنسبة إلى كاستورياديس هناك ضرورة لتبني الاستقلال الذاتي، بمعنى لا يقتصر على النموذج الليبرالي للحرية السلبية غير القسرية حيث يتم تصوير الإكراه على هذا النحو على أنّه شر (وإن كان شرًا ضروريًا)، وجادل كاستورياديس بأنّ الهدف من السياسة الحقيقية هو بناء شعب قادر على تقييد الذات بشكل إيجابي، ولا يقتصر هذا التقييد الذاتي على الإيحاء الضعيف، وبدلاً من ذلك يمكن أن يكون الاستقلالية أكثر من مجرد الإرشاد ومختلفة عنها إذا تجسدت في خلق أفراد أحرار ومسؤولين.

الحكم الذاتي الفعال:

جادل كاستورياديس ضد المثل الأعلى الليبرالي بأنّ القضاء على الإكراه لا يمكن أن يكون هدفًا سياسيًا كافيًا حتى لو كان شيئًا جيدًا في كثير من الأحيان، وبدلاً من ذلك تتجاوز المجتمعات المستقلة مشروع الحرية السلبية المتمثل في عدم تقييد الناس، وتخلق المجتمعات المستقلة طرقًا لتقييد نفسها بشكل صريح وواضح ومتعمد من خلال إنشاء مؤسسات يقوم الأفراد من خلالها بتشكيل قوانينهم الخاصة لأنفسهم، وبالتالي سيتم تشكيلها على أنّها نقدية ومستقلة، وفقط مثل هذه المؤسسات يمكن أن تجعل الحكم الذاتي فعالاً بطريقة فعلية.

أخيرًا في تعريفه لما كان يقصده بالحكم الذاتي الفعال ميّز كاستورياديس وجهة نظره عن الاستقلال الذاتي عن كانط، وجادل في المنظور الكانطي بأنّ إمكانية الاستقلالية تنطوي على إمكانية التصرف بحرية وفقًا للقانون العالمي، والذي تم تأسيسه مرة واحدة وإلى الأبد بصرف النظر عن تأثير أي حوافز غير متجانسة أخرى، وجادل كاستورياديس بأنّ الكانطية تعامل الاستقلالية نفسها كهدف أو كشيء نريده ببساطة لنفسه.

مرددًا صدى هيجل جادل كاستورياديس بأنّ الحكم الذاتي الكانطي ينتهي به الأمر كمسألة شكلية بحتة أو رغبة في الاستقلال الذاتي لنفسه فقط، ولم ينكر كاستورياديس مثل كانط أهمية السعي وراء الاستقلال الذاتي لنفسه، مع العلم التام بأنّ قانون عمل الفرد لا يُعطى من أي مكان آخر، ومع ذلك أضاف أننا لا نرغب في الاستقلالية لنفسها فقط ولكن أيضًا من أجل أن نكون قادرين على القيام والتأسيس، ويجب أيضًا جعل الحكم الذاتي الكانطي رسميًا وقائعيًا.

وجادل بأنّ مهمة الفلسفة ليست فقط إثارة السؤال عن مقايضة الفقه، وهذه هي البداية فقط، وتتمثل مهمتها في توضيح كيف يصبح الحق حقيقة وواقع، وهذا هو الشرط لوجوده وهو في حد ذاته أحد مظاهره الأولى، وعلى هذا النحو فإنّ الاستقلالية الفعالة تعني أنّ إرادة الاستقلالية نفسها كغاية يجب أن تكون أيضًا إرادة الوسائل الواقعية للاستقلالية، أي الإرادة لإنشاء المؤسسات التي يعتمد عليها الحكم الذاتي.


شارك المقالة: