كان كورنيليوس كاستورياديس أحد أهم المفكرين وأكثرهم إبداعًا في النصف الثاني من القرن العشرين، فهو الفيلسوف والثوري والمؤسس المشارك للمجموعة الأسطورية والصحافة الاشتراكية أو البربرية، ومحلل نفسي ممارس قام بمراجعة نظرية فرويد، والمثقف السياسي الذي ألهم العمال والطلاب خلال أحداث أيار في عام 1968 في فرنسا، واقتصادي محترف في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والهيليني المعترف به، والممثل المميز لليسار الراديكالي ومؤيد مشروع الحكم الذاتي.
فلسفة كاستورياديس في مفهوم الصهارة:
يحتوي مشروع الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس على العديد من الجوانب التي تسمح بتفسيره على أنّه نظرية الوجود بالمعنى التقليدي، وقد طور مفهومين نظريين مهمين يدعمان الكثير من أعماله الأنطولوجية التي بدأت في السبعينيات وهما: الصهارة والمجموعات، حيث كان المصطلح السابق هو الاسم المفضل لدى كاستورياديس لوجود غير محدد أو مختلط، والأخير المصطلح الفرنسي لـ (sets) المجموعات هو المصطلح الخاص به للكائن المُحدد (حيث يشير الكائن إلى إما المفرد أو الجمع).
واجه كاستورياديس صعوباته الأكبر في وصف الصهارة منذ أن جادل في وجود الصهارة، ومع ذلك فهي غير مفهومة من قبل الأنطولوجيا التقليدية لأنّ الأنطولوجيا التقليدية تعتقد أنّ الوجود الحقيقي محدد بدقة، وتقول الأنطولوجيا التقليدية أنّ ما هو غير محدد (قرد يوناني) هو كائن ناقص إلى حد ما أو نوع من عدم الوجود.
أي أنّ الوجود غير المُحدد يُنظر إليه في أفضل الأحوال على أنّه موجود فقط بقدر ما يرتبط بالكائن المُحدد (الكمثرى اليونانية)، كما كانت مهمة كاستورياديس هي تخيل وجود غير محدد دون التفكير فيه على أنّه مجرد وجود نسبي لكائن محدد أو نفي له، وعلى هذا النحو بذل كاستورياديس جهدًا شديد الحذر لتعريف الصهارة (على الرغم من أنّه لم يعتبر أنّ مهمته ممكنة في هذا الشكل التعريفي) بطريقة لم تحددها على أنّها أنماط ناقصة للوجود المحدد.
اقتراحات كاستورياديس ومنطق الصهارة:
في نص عام 1983 (منطق الصهارة ومسألة الاستقلالية) اقترح كاستورياديس عدة اقتراحات ومنها:
1- (M1): إذا كانت (M) عبارة عن صهارة فيمكن للمرء أن يحدد في (M) عددًا غير محدد من المجموعات.
2- (M2): إذا كانت (M) عبارة عن صهارة فيمكن للمرء أن يحدد في (M) صهارة أخرى غير (M).
3- (M3): إذا كانت (M) عبارة عن صهارة فلا يمكن تقسيم (M) إلى صهارة.
4- (M4): إذا كانت (M) عبارة عن صهارة فإنّ كل تحلل لـ (M) إلى مجموعات يترك الصهارة كبقايا.
5- (M5): ما ليس الصهارة هو مجموعة أو لا شيء.
هنا تكمن المشكلة المركزية في التفكير في الصهارة في الطريقة التي تظهر بها كرابطة كبيرة حيث لا يمكن فصل أي صهارة عن أي صهارة أخرى، وبالتالي فإنّ الصهارة هي شيء مثل خليط من الكائنات التي لا تتضمن عناصر منفصلة أو منفصلة تمامًا.
ومع ذلك يمكن الإشارة إلى الصهارة الأخرى التي تختلف عن أي صهارة معينة يتم البحث عنها على أنّها موجودة داخل الصهارة التي يتم البحث عنها، ولهذا السبب فإنّ الصهارة ليست مجرد كيان واحد، ومع ذلك ليس لديهم أجزاء ويقاومون دائمًا أن يكونوا محصورين في مجموعات، وباختصار الصهارة غير محددة بطبيعتها، في حين أنّها قابلة للتحديد من بعض النواحي فإنّها لا تحدد بالكامل أبدًا.
فلسفة كاستورياديس في مفهوم المجموعات:
أما بالنسبة لروايته للمجموعات أو الكينونة المحددة فقد جادل كاستورياديس بأنّ كل الأنطولوجيا التقليدية -بما في ذلك الأشكال الأفلاطونية والمادة الأرسطية والفئات الكانطية والمطلق الهيجلي على سبيل المثال- تفترض أنّ الوجود محدد بشكل أساسي، كما إنّ مثل هذه الأنطولوجيا وفقًا لمصطلحات كاستورياديس هي علم وجود الهوية أو إنسيديك أو أنطولوجيا.
تعتمد هذه الأنطولوجيات دائمًا على بعض عوامل التفكير بما في ذلك المبادئ المنطقية والرياضية التقليدية مثل مبدأ الهوية وعدم التناقض والثالث المستبعد وما إلى ذلك، ويفترضون أنّ الوجود يتكون من عناصر منفصلة تمامًا أو غير مترابطة تتوافق بدقة مع هذه المبادئ، ولذلك لا يمكن للفكر الانسيابي استيعاب فكرة أنّه سيكون هناك أي شيء آخر بخلاف الكائن المُحدد.
كمثال على الفكر الإنجليزي أشار كاستورياديس إلى نظرية المجموعات وتطورها، حيث وصفت نظرية المجموعة الساذجة لكانتور المجموعة بأنّها: “أي مجموعة في مجموعة كاملة (M) من كائنات محددة ومنفصلة (M) من حدسنا أو فكرنا”، وبالتالي فقد عبّر صراحة عما ستحافظ عليه جميع الإصدارات اللاحقة (غير الساذجة أو البديهية) من نظرية المجموعة ضمنيًا، حيث الافتراض بأنّ الوجود محدد بالكامل أو يتكون من عناصر محددة بالكامل.
عندما تبين أنّ نظرية المجموعات الأصلية لكانتور تؤدي إلى مفارقات (مثل مفارقة راسل)، فإنّ نظرية المجموعات البديهية اللاحقة لم تطرح تساؤلات حول الافتراض الأساسي المسبق لكانتور بأنّ كل الوجود محدد، وبدلاً من ذلك حاولت إنقاذ افتراض حتمية كانتور من خلال الرهان على توافق الوجود مع افتراض الحتمية، وكل ذلك أثناء البحث عن طرق أفضل لجعل هذا الافتراض متسقًا.
وهكذا قبلت نظرية المجموعات البديهية بلا شك افتراض كانتور الأصلي حتى عندما حاولت إنقاذ نظرية المجموعات من خلال البديهيات، وبالتالي فإنّ نظرية المجموعات هي حالة نموذجية للفكر الإنسيدي، ومع ذلك فإنّه ليس فريدًا في افتراضه أنّ الوجود يجب أن يُحدد، فاللغة اليومية على سبيل المثال تفترض ضمنيًا بالفعل الفصل بين الكائنات وتميزها، وتعيد الأنطولوجيا النظرية الثابتة تأكيد هذا التحيز للغة اليومية عندما تفترض أنّ كل الوجود محدد.
جادل كاستورياديس بأنّ مشكلة الافتراض القائل بأنّ كل كائن يجب أن يكون محددًا أو إنسيابيًا ليس في حقيقة أنّه لا توجد طبقة من الكائن المحدد على الإطلاق، وبدلا من ذلك هناك مثل هذه الطبقة من الوجود المحدد بالكامل، والمشكلة هي أنّه في حين أنّ هذه الطبقة هي شرط لظهور كائنات أخرى فهي مجرد شرط وليس المبدأ التأسيسي الوحيد لطبقات الوجود الأخرى.
الافتراض بأنّ كل كائن يجب أن يكون محددًا يؤدي إلى أنّ المنطق الإنسيديكي يقدم بعض طبقة الوجود (الطبقة الطبيعية الأولى من الحتمية المطلقة) كما لو كانت مكونة فقط لكل طبقة من الكيانات (أو كل كائن)، وعلى هذا النحو فإنّ الأنطولوجيا الإنسيدية بالكامل تفترض خطأً أنّ هذا الشرط الواقعي للحتمية هو في حد ذاته تكويني عالميًا من حيث المبدأ لجميع الكائنات الممكنة.
كما إنّه يفترض خطأً أنّ الطبقات الأخرى تتوافق ببساطة مع الطبقات (أو الطبقة) من الوجود، وفي الواقع يفترض الفكر الأبدي نفسه أنّ هذه الطبقة من الوجود أساسية، دون إدراك مصاحب بأنّ هذه الفرضية هي فرضية، وهكذا فإنّ الأنطولوجيا التقليدية مثل اللغة اليومية تخطئ بشكل خطير في الطبقة الداخلية نفسها لما يجب أن يكون عليه الوجود.