اقرأ في هذا المقال
كانت مارجريت لوكاس كافنديش فيلسوفة وشاعرة وعالمة وكاتبة روائية وكاتبة مسرحية عاشت في القرن السابع عشر، وعملها مهم لعدد من الأسباب وذلك لأنّه يضع نسخة مبكرة ومقنعة للغاية من المذهب الطبيعي الموجود في الفلسفة والعلوم الحالية، كما تقدم رؤى مهمة تؤثر على المناقشات الأخيرة لطبيعة وخصائص الذكاء وسؤال ما إذا كانت الأجسام التي تحيط بنا ذكية أو لها سبب ذكي أم لا.
أفلاطون والمادة:
تعمل كافنديش ضمن تقليد فلسفي تكون فيه عقيدة أنّ المادة ذاتية الحركة وذكية تكاد تكون غير مفهومة تمامًا، وبالنسبة لأولئك من خصومها الذين يسمحون بأنّ العقيدة يمكن الاستمتاع بها فمن غير المرجح في أحسن الأحوال وإذا كانت صحيحة فهي خيبة أمل كبيرة.
على سبيل المثال نجد في أفلاطون وجهة النظر القائلة بأنّ: “الفيلسوف يحرر الروح من الارتباط بالجسد قدر الإمكان”، وبالنسبة لأفلاطون فإنّ الأرواح غير مرئية وغير ملموسة وبالتالي فهي غير قابلة للتجزئة وإلهية والأجساد هي نقيضها تمامًا، فنحن نعلم من تحليل مفهومنا عن الجسد ومن ملاحظتنا ذات الصلة المفترضة عن الخمول المفاجئ للأشياء التي تموت، وأنّ الأجساد المتحركة لها روح وأنّ الأجساد بمفردها خاملة.
ومن الواضح أنّ النفس هي ما ينشط الجسد ويحييه، ونقيض الروح جسدها هو الموت، ويميل تجسيدنا واحتياجاتنا المادية الناتجة إلى السعي وراء الأشياء المعقولة، ولكنها لا تستحق اهتمامنا وتتداخل مع قدرتنا على الاهتمام بالأشياء.
أفلوطين والمادة:
نجد ازدراءًا مشابهًا للجسد في فلاسفة بارزين في الفلسفة القديمة اللاحقة وفي فلاسفة العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث أيضًا، وفي (عن الجمال) يتحدث أفلوطين عن الظلمة المتأصلة في المادة، حيث إنّه يمتدح المعقول ولكن فقط بالقدر الذي يقلد فيه الأفكار والعقول اللامادية، فلا تزال النار مادية بالطبع، والأشياء المادية ليست بديلاً عن الأشياء غير المادية (وبالتالي) الإلهية، وباختصار يعتقد أفلوطين أننا يجب أن نفعل كل ما في وسعنا للتخفيف من الحقيقة المؤسفة لتجسيدنا وبدلاً من ذلك الانخراط في التفكير الفلسفي.
أوغسطين والمادة:
بعد مائة عام كرر أوغسطين نفس الرأي بالضبط من حيث أنّه إلى أي مدى تقدر هذه الإرادة؟ وأنّ الشخص بالتأكيد لا يعتقد أنّه يجب مقارنتها بالثروة أو الشرف أو الملذات الجسدية أو حتى كل هذه معًا، إذن فإنّه يجب أن نفرح قليلاً لأنّ لدينا شيئًا ما في أرواحنا -هذا الشيء الذي أسميه حسن النية- بالمقارنة مع الأشياء التي ذكرناها لا قيمة لها على الإطلاق؟
بالنسبة لأوغسطين الجسد سيء جدًا لدرجة أنّ الخطيئة تكمن في تحويل انتباهنا بعيدًا عن الأشياء الأبدية إلى الأشياء الزمنية والجسدية، يعمل أوغسطين في التقليد المسيحي ولا يمكن تجاهل أنّه على الرغم من أنّ المسيح قد قدم تضحية هائلة بالتخلي عن جسده، فإنّ التخلي عن الجسدية لصالح الروحانية البحتة يقرأ بشكل مختلف تمامًا من خلال عدسة أوغسطين والأفلاطونية.
نيكولاس مالبرانش والمادة:
نفس طريقة التفكير تجد طريقها إلى القرن السابع عشر أيضًا، ونجد في الفيلسوف الديكارتي (والأوغسطيني والأفلاطوني) نيكولاس مالبرانش وجهة النظر القائلة بأنّ الأجساد أشياء دنيا، وهي في الأساس سلبية وخاملة، كما إنّه يجمع مجموعة كاملة من الموضوعات التي طرحها أسلافه الذين رفضوا الجسد.
وفي حوارات حول الميتافيزيقا والدين قال المتحدث باسمه ثيودور لخصمه أريستس أنّ تجسيدنا هو عبء ويجب علينا تحييده إلى أي مدى يمكننا، فنحن الآن جاهزين للقيام بالآلاف والآلاف من الاكتشافات في أرض الحقيقة، كما نميز الأفكار عن الأحاسيس لكن تميزها جيداً، وطرائقنا هي فقط الظلام، فمن الواجب القيام بإسكات حواسنا وخيالنا وشغفنا، وسوف نسمع الصوت النقي للحقيقة الداخلية والاستجابات الواضحة لسيدنا المشترك.
باختصار يجب تجنب كل ما يؤثر فينا ويجب احتضان كل ما ينيرنا بسرعة، كما يجب أن نتبع العقل بالرغم من الإغراءات والتهديدات وإهانات الجسد الذي نتحد به على الرغم من فعل الأشياء المحيطة بنا، وبالنسبة إلى مالبرانش فإنّ البحث عن الحقيقة هو حرفياً مسألة تراجع إلى الدراسة حيث يتم تقليل احتمالية تشتيت انتباهنا بسبب إغراءات العالم المعقول، ونجد في رالف كودوورث المعاصر لمالبرانش (وكافنديش) اشمئزازًا مماثلاً للجسد، ويجادل كودوورث بأنّ هناك تسلسلًا هرميًا للوجود ينطبق على المخلوقات وأنّ العقول في القمة، فالجثث ميتة ومتواضعة ومباشرة في القاع.
من المؤكد أنّ كودوورث يدرك أنّ الأجسام التي تحيط بنا نشطة وتنخرط في سلوكيات منظمة و (على الأقل ظاهريًا) غائية، ولكن لا شيء من هذا دليل على أنّ المادة لم تمت، ويخلص كودوورث إلى أنّه نظرًا لأنّ المادة ماتت لا يمكن تفسير سلوكها المنظم والهادف إلّا على افتراض أنّها مصحوبة بدليل (غير مادي بالضرورة).
آن كونواي والمادة:
وهناك فلاسفة آخرون في القرن السابع عشر يتفقون على أنّ المادة هي نوع مكروه من الوجود، ولكنهم استنتجوا أنّها غير موجودة أو على الأقل أنّها غير موجودة كما تصورها التقليد، ونجد في آن كونواي وجهة النظر القائلة بأنّ الله لم يخلقها، فقد أوضح بأنّه كيف يخرج منه ميت أو يخلقه كمجرد بدن أو مادة؟ ولقد قيل حقًا أنّ الله لا يصنع الموت، وصحيح أيضًا أنّه لم يصنع شيئًا ميتًا، فكيف يأتي الشيء الميت من الذي هو الحياة والحب اللامحدود؟ أو كيف يمكن لأي مخلوق أن يتلقى جوهرًا حقيرًا ومتناقصًا منه (الذي هو كريم وصالح بلا حدود)؟
بالنسبة لكونواي فإنّ الله يخلق الكائنات الحية فقط، وبالتالي فإنّ الأشياء اليومية التي تحيط بنا هي شيء آخر غير ما كان يعتقده أفلوطين ومالبرانش وديجبي، ولا يوجد شيء وحشي وخامل وغير مفكر، وبدلاً من ذلك هناك سلسلة متصلة من المخلوقات الموجودة في طيف من الذكاء والنشط إلى حد كبير، وتتفق كافنديش مع كونواي على أنّه لا يوجد شيء يجيب على المفهوم التقليدي للمادة، ولكن على عكس كونواي يسعدها أن تقول أنّ المادة تحيط بنا.
كما تتفق كافنديش وكونواي في الغالب على الاتفاق، وترفض كافنديش ببساطة المفهوم التقليدي للمادة على أنّها غير كافية، ثم تنتقل إلى القول بأنّ الأشياء التي اختارها مفهومنا للمادة دائمًا -الأشياء التي صنفتها لغتنا على أنّها مادة- هي شيء أكثر من ذلك، وعلى عكس العديد من خصومها لم تشعر بخيبة أمل من نتيجة أنّ العقول مادية، كما إنّها تعتقد على العكس من ذلك أنّها مصدر أمل.
على سبيل المثال إذا قدرنا أنّ العقول مادية فسنكون قادرين على التوصل إلى علاجات أفضل وأكثر منهجية وأقل تلمسًا للأمراض العقلية، وكدليل على وجهة نظرها تشير كافنديش إلى الحقائق الواضحة التي مفادها أنّ مزاج الشخص وطاقته يتأثران بالتغذية، وأنّ الشيخوخة وإصابة الدماغ يمكن أن تحيد بعض وظائفنا المعرفية، وتتعارض كافنديش مع تقاليدها وتقول إنّ إرضاء الشخص ليس مسألة الابتعاد عن الجسد بل فهم كل دينامياته واحتضانه.