فلسفة كامو في النزعة الإنسانية

اقرأ في هذا المقال


كان الفيلسوف ألبير كامو كاتبًا فرنسيًا جزائريًا وسيمًا للغاية في منتصف القرن العشرين، والذي يرتكز ادعاء انتباهنا على ثلاث روايات وهما: رواية الغريب (The Outsider) عام 1942، ورواية الشاطئ (The Plague) عام 1947، ورواية السقوط (The Fall) عام 1956، واثنتان فلسفيتان مقالات وهما أسطورة سيزيف عام 1942 والمتمرد عام 1951، كما كان لديه بعض الأفكار العظيمة حول معنى الحياة، ولماذا يجب أن تنظر إلى هذه الحياة وليس الحياة التالية ولماذا يعتبر الانتحار خيارًا سيئًا.

الفرد مقابل التاريخ والثقافة الجماهيرية:

يتمثل الموضوع الأساسي للأدب الأوروبي والفكر النقدي في أوائل القرن العشرين في ظهور الحضارة الجماعية الحديثة وآثارها الخانقة من الاغتراب ونزع الصفة الإنسانية، حيث أصبح هذا موضوعًا منتشرًا في الوقت الذي كان فيه كامو يؤسس سمعته الأدبية، وتصاعد القلق بشأن مصير الثقافة الغربية وأصبح مكثفًا بالفعل إلى مستويات مروعة مع الظهور المفاجئ للفاشية والشمولية والتقنيات الجديدة للإكراه والموت، ثم كان هنا موضوعًا جاهزًا لكاتب وجهات نظر كامو السياسية والإنسانية، واستجاب للمناسبة بقوة وبلاغة نموذجية.

بطريقة أو بأخرى تدخل موضوعات الاغتراب ونزع الصفة الإنسانية كمنتجات ثانوية لعالم تقني وآلي بشكل متزايد في جميع أعمال كامو تقريبًا، حتى مفهومه عن العبث يتضاعف في عالم اجتماعي واقتصادي تسود فيه الأعمال الروتينية التي لا معنى لها والتكرار المخدر للعقل، وتنعكس شدة سيزيف وتضخيمها في خط التجميع والمكتب التجاري والمكتب الحكومي وخاصة في المستعمرة العقابية ومعسكر الاعتقال.

تماشيًا مع هذا الموضوع يمكن فهم مورسو الغامض دائمًا في الغريب (The Stranger) على أنّه مظهر محبط للشخصية الجماعية الناشئة حديثًا (أي كشخصية خالية من المشاعر والعواطف الإنسانية الأساسية)، وعلى العكس من ذلك باعتباره عائقًا وحيدًا آخر عينة متبقية من الرومانسية القديمة، وبالتالي شخصية تعتبرها الأغلبية الروبوتية خطيرة وغريبة، وبالمثل يمكن تفسير الطاعون على مستوى واحد على الأقل على أنّه حكاية رمزية يجب فيها الحفاظ على البشرية من الوباء المميت للثقافة الجماهيرية، والتي تحول البشر الذين كانوا أحرارًا ومستقلين ومحكومين ذاتيًا في التفكير إلى أنواع جديدة بلا روح.

في أوقات مختلفة من الرواية يصف راوي كامو الطاعون كما لو كان موظفًا عامًا مملًا ولكنه يتمتع بكفاءة عالية فيقول: “لقد كان قبل كل شيء خصمًا داهية لا يعرف الكلل، ومنظم ماهر ويقوم بعمله بدقة وبشكل جيد، ولكن يبدو أنّ الطاعون قد استقر للأبد في أشد حالاته ضراوة وكان يتسبب في خسائره اليومية بحماس موظف حكومي جيد”.

هذا التعريف للطاعون بالبيروقراطية المدنية القمعية وإضفاء الطابع الروتيني على الكاريزما يتطلع إلى مسرحية المؤلف حالة الحصار، حيث يتم استخدام الطاعون مرة أخرى كرمز للاستبداد، وفقط هذه المرة يتم تجسيده بطريقة كرتونية تقريبًا باعتباره نوع من موظف حكومي متعجرف أو مدير مكتب من الجحيم، بحيث يرتدي زيًا عسكريًا مبهرجًا مزينًا بشرائط وزخارف.

ويحضر شخصية الطاعون (صورة ساخرة للجنرال فرانسيسكو فرانكو – أو القائد كما كان يحب أن يصمم نفسه) عن كثب من قبل سكرتيره الشخصي ومساعده المخلص الموت، والذي تم تُصوَّر على أنّها بيروقراطية رئيسة ومسؤولة تفضل أيضًا الزي العسكري وتحمل لوحة المشبك للأوراق ودفترًا دائمًا، ولذا فإنّ الطاعون هو ديكتاتور فاشي والموت مفوض حذر، بحيث تمثل هذه الأرقام معًا نظامًا للتحكم الشامل والإدارة الدقيقة التي تهدد مستقبل المجتمع الجماهيري.

في تأملاته حول موضوع نزع الإنسانية ما بعد الصناعة، يختلف كامو عن معظم الكتاب الأوروبيين الآخرين (وخاصة من اليساريين) في النظر إلى الإصلاح الجماهيري والحركات الثورية بما في ذلك الماركسية، على أنّها تمثل على الأقل تهديدًا كبيرًا للحرية الفردية وفي مرحلة متأخرة من الرأسمالية، فطوال حياته المهنية استمر في الاعتزاز بالفضائل القديمة والدفاع عنها مثل الشجاعة الشخصية والاحترام الذي يميل المثقفون اليساريون الآخرون إلى اعتباره رجعيًا أو برجوازيًا.

الانتحار:

الانتحار هو الموضوع الرئيسي لأسطورة سيزيف ويعمل كخلفية في أعماله الأدبية والفلسفية كاليجولا والسقوط، ففي كاليجولا تفضل شخصية العنوان المجنونة في نوبة من الرعب والاشمئزاز من انعدام معنى الحياة، فالموت -وإسقاط العالم معه- من قبول كون غير مبال بمصير الإنسان أو لا يخضع لإرادته الفردية، أما في السقوط يعتبر فعل انتحار شخص غريب بمثابة نقطة انطلاق لطقوس مريرة من التدقيق الذاتي والندم من جانب الراوي.

مثل فيتجنشتاين (الذي كان لديه تاريخ عائلي في الانتحار وعانى من نوبات الاكتئاب)، اعتبر كامو أنّ الانتحار هو القضية الأساسية للفلسفة الأخلاقية، ومع ذلك على عكس الفلاسفة الآخرين الذين كتبوا عن هذا الموضوع (من شيشرون وسينيكا إلى مونتين وشوبنهاور) يبدو كامو غير مهتم بتقييم الدوافع والمبررات التقليدية للانتحار (على سبيل المثال لتجنب مرض طويل ومؤلم ومنهك أو ردًا على مأساة شخصية أو فضيحة).

في الواقع يبدو أنه مهتم بالمشكلة فقط إلى الحد الذي تمثل فيه ردًا واحدًا محتملاً على العبث، وحكمه في هذه المسألة غير مشروط وواضح، فالرد الوحيد الشجاع والصحيح أخلاقيًا على العبثية هو الاستمرار في العيش والانتحار ليس خيارًا.

عقوبة الإعدام:

منذ أن سمع لأول مرة قصة غثيان والده واشمئزازه بعد أن شهد إعدامًا علنيًا، بدأ كامو في معارضة صريحة ودائمة لعقوبة الإعدام، حيث كانت عمليات الإعدام بالمقصلة مشهدًا عامًا شائعًا في الجزائر خلال حياته ولكنه رفض حضورها وتراجع بمرارة عند ذكرها.

إنّ إدانة عقوبة الإعدام صريحة وضمنية في كتاباته، على سبيل المثال في الحبس الطويل الغريب مورسو أثناء محاكمته وإعدامه في نهاية المطاف، يتم تقديمهما كجزء من طقوس احتفالية متقنة تشارك فيها السلطات العامة والدينية، وتتناقض العقلانية القاتمة لعملية القتل القانوني هذه بشكل ملحوظ مع الطبيعة المفاجئة وغير المنطقية شبه العرضية لجريمته الفعلية، وبالمثل في أسطورة سيزيف يتناقض الانتحار المحتمل مع نقيضه القاتل الرجل المحكوم عليه بالموت، ونتذكر باستمرار أنّ حكم الإعدام هو مصيرنا المشترك في عالم سخيف.

معارضة كامو لعقوبة الإعدام ليست فلسفية على وجه التحديد، أي أنّها لا تستند إلى نظرية أو مبدأ أخلاقي معين (مثل اعتراض سيزار بيكاريا النفعي على أنّ عقوبة الإعدام خاطئة لأنّه لم يثبت أنّ لها تأثير رادع أكبر من السجن المؤبد)، وعلى النقيض من ذلك فإنّ معارضة كامو هي إنسانية وضميرية وتكاد تكون عميقة.

مثل فيكتور هوغو سلفه العظيم في هذه القضية ينظر إلى عقوبة الإعدام على أنّها وحشية فظيعة، فهو يعدها عمل شغب دموي وانتقام مغطى بقشرة رقيقة من القانون والكياسة لجعلها مقبولة من قبل الحساسيات الحديثة، وكونه أيضًا عمل انتقامي يستهدف بشكل أساسي الفقراء والمضطهدين، وأنّه يُمنح إجازة دينية ويجعله أكثر بشاعة ولا يمكن الدفاع عنه في نظره.

يقدم مقال كامو (تأملات في المقصلة) دراسة تفصيلية للقضية، وبيان شخصي بليغ مع رؤى نفسية وفلسفية مقنعة، ويتضمن دحض المؤلف المباشر للحجج العقابية التقليدية المؤيدة لعقوبة الإعدام (مثل ادعاء الفيلسوف إيمانويل كانط بأنّ الموت هو العقوبة المناسبة قانونًا، والمطلوبة أخلاقياً بالفعل للقتل)، ويرد كامو على كل من يجادل بأنّ القتل يجب أن يعاقب عليه بالمثل.

بالنسبة لكامو فإنّ عقوبة الإعدام هي أكثر جرائم القتل العمد مع سبق الإصرار، والتي لا يمكن مقارنة أي فعل إجرامي بها مهما كان محسوبًا، ولكي يكون هناك معادلة يجب أن تعاقب عقوبة الإعدام المجرم الذي حذر ضحيته من التاريخ الذي سيُلحق به موتًا مروّعًا، والذي منذ تلك اللحظة فصاعدًا احتجزه تحت رحمته لعدة أشهر، ومثل هذا الوحش لا يمكن مواجهته في الحياة الخاصة.

ويختتم كامو مقالته بالقول إنّه على الأقل يجب على فرنسا إلغاء المشهد الوحشي للمقصلة واستبداله بإجراء أكثر إنسانية (مثل الحقنة المميتة)، ولكنه لا يزال يحتفظ بأمل ضئيل في إلغاء عقوبة الإعدام تمامًا في وقت ما في المستقبل فقال: “في أوروبا الموحدة للمستقبل يجب أن يكون الإلغاء الرسمي لعقوبة الإعدام هو المادة الأولى في القانون الأوروبي الذي نأمل جميعًا فيه”، فكامو نفسه لم يعش ليرى ذلك اليوم، ولكنه بلا شك سيكون سعيدًا بمعرفة أنّ إلغاء عقوبة الإعدام أصبح الآن شرطًا أساسيًا ومسبقًا للعضوية في الاتحاد الأوروبي.


شارك المقالة: