فلسفة كامو في حدود العقل ومفهوم السعادة

اقرأ في هذا المقال


في واحدة من أكثر الأعمال تأثيراً في القرن العشرين هي رواية أسطورة سيزيف التي كتبها الفيلسوف ألبير كامو، حيث يتناول كامو ما يعتقد أنّه أحد المصادر الرئيسية للعبث أي حدود العقل البشري، ويدّعي أنّ عدم قدرته على فهم الواقع البشري بشكل كامل يخلق فجوة بين وجوده ومعناه، وفي الواقع يجعل التجربة الإنسانية برمتها عبثية، كما يقول كامو ذلك الخط الشهير: “يجب أن نتخيل سيزيف سعيدًا”، وذلك في محاولة لتفسير ما يشير إليه على أنّه حتمية السعادة، فبالنسبة لأرسطو السعادة هي شيء نعمل من أجله طوال حياتنا، وفقط عدد قليل منا يصل إليه حقًا وحتى بالنسبة لهم فهو عرضة للصدفة.

حدود العقل:

يواصل كامو رسم تجارب أخرى للسخافة حتى يصل إلى الموت، ولكن على الرغم من أنّ كامو يسعى إلى تجنب الجدل حول حقيقة ادعاءاته، فإنّه مع ذلك يخلص إلى هذا (المنطق السخيف) بسلسلة من التأكيدات القاطعة الموجهة إلى (الذكاء) حول الإحباط الحتمي للرغبة البشرية في معرفة العالم والعيش فيه، وعلى الرغم من نواياه لا يستطيع كامو تجنب تأكيد ما يعتقد أنّه حقيقة موضوعية من حيث يجب أن نيأس من إعادة بناء السطح المألوف والهادئ الذي من شأنه أن يمنحنا راحة البال.

بالانتقال إلى التجارب التي تبدو واضحة لأعداد كبيرة من الأشخاص الذين يتشاركون في الإحساس اللامعقول، فيعلن بشكل قاطع: “هذا العالم في حد ذاته ليس معقولًا، وهذا كل ما يمكن قوله”، فجهودنا للمعرفة مدفوعة بالحنين إلى الوحدة، وهناك فجوة لا مفر منها بين ما نتخيل أننا نعرفه وما نعرفه حقًا.

باستثناء العقلانيين المحترفين يشعر الناس اليوم باليأس من المعرفة الحقيقية، ويؤكد كامو أنّ تاريخ الفكر الإنساني يتسم بـ (ندمه المتتالي وعجزه) وأنّ استحالة المعرفة تم إثباتها عندما يكتب بعناية أكبر، كما يدعي فقط أنّه يصف مناخًا معينًا، ولكن على أي حال تظهر افتراضاته الأساسية مرارًا وتكرارًا من حيث العالم مجهول والحياة بلا معنى، وجهودنا لفهمهم لا تؤدي إلى شيء.

يقترح آفي ساغي أنّه في الادعاء بأنّ كامو هذا لا يتحدث بصفته غير عقلاني -وهذا هو وبعد كل شيء كيف ينظر إلى الوجوديين- ولكن كشخص يحاول فهم حدود العقل بعقلانية، وبالنسبة لكامو تكمن المشكلة في أنّه من خلال المطالبة بالمعنى والنظام والوحدة فإننا نسعى لتجاوز تلك الحدود والسعي وراء المستحيل، ولن نفهم أبدًا وسنموت رغم كل جهودنا.

هناك نوعان من الاستجابات الواضحة لإحباطاتنا وهما: الانتحار والأمل، فبالأمل يعني كامو فقط ما وصفه في الأعراس، وهو الجهد المستوحى من الدين لتخيل حياة ما بعد هذه الحياة والعيش فيها، أو ثانيًا كما تم تناوله بإسهاب في المتمرد في ثني طاقات المرء للعيش من أجل قضية عظيمة تتجاوز الذات: “الأمل في حياة أخرى يجب أن يستحق أو خداع أولئك الذين يعيشون ليس من أجل الحياة نفسها، ولكن من أجل فكرة عظيمة التي سوف تتجاوزها وتنقحها وتعطيها معنى وتخرجها”.

ما هو البديل الكاموسي للانتحار أو الأمل؟ فالجواب هو العيش بلا هروب بنزاهة، ففي تمرد وتحدي والحفاظ على التوتر المتأصل في الحياة البشرية، ونظرًا لأنّ العبثية الأكثر وضوحًا هي الموت يحثنا كامو على الموت بدون تسوية وليس بمحض إرادتنا، وباختصار يوصي بحياة بلا عزاء، ولكن بدلاً من ذلك حياة تتسم بالوضوح والوعي الشديد والتمرد ضد فنائها وحدودها.

السعادة في مواجهة المصير:

كيف يمكن إذن أن نبقى متسقين مع التفكير السخيف (العبثية) ونتجنب الوقوع ضحية لروح الحنين إلى الماضي؟ هنا تجد أسطورة سيزيف الإجابة بالتخلي عن مجال الفلسفة تمامًا، حيث يصف كامو عددًا من الشخصيات والأنشطة الخيالية العبثية، بما في ذلك دون جوان (Don Juan) ودوستويفسكي كيرولوف  (Dostoevsky Kirolov) والمسرح والإبداع الأدبي، ثم يختتم بقصة سيزيف الذي يجسد تمامًا إحساسًا بعبثية الحياة وعبثها وعملها اليائس.

يرى كامو أنّ جهد سيزيف اللامتناهي والوعي الشديد بعدم الجدوى هو انتصار، وبعد الفصول السابقة الكثيفة والوعي الذاتي للغاية تختصر هذه الصفحات الخط الفكري بأكمله في صورة حية، حيث يوضح سيزيف أنّه يمكننا التعايش مع يقين المصير الساحق بدون الاستسلام الذي يجب أن يصاحب ذلك، وبالنسبة لكامو يذكرنا سيزيف أنّه لا يمكننا المساعدة في السعي لفهم الواقع الذي يتجاوز ذكائنا، والسعي لفهم أكثر مما يسمح به فهمنا العلمي المحدود والعملي ونرغب في العيش دون موت، ومثل سيزيف نحن قدرنا وإحباطنا هو حياتنا ذاتها حيث لا يمكننا الهروب منه أبدًا.

لكن هناك المزيد  فبعد سقوط الصخرة مما يؤكد عدم جدوى مشروعه المطلق، ويمشي سيزيف وراءه مرة أخرى، وهذه هي ساعة الوعي، ففي كل لحظة عندما يغادر المرتفعات ويغوص تدريجياً نحو مخابئ الآلهة يكون متفوقًا على مصيره، وإنّه أقوى من صخرته، ولماذا نستخدم كلمة (متفوق) و(أقوى) عندما لا يكون لديه أمل في النجاح في المرة القادمة؟ ومن المفارقات أنّ السبب هو أنّ الشعور بالمأساة يتوج انتصاره، فالوعي المأساوي هو نتيجة التفكير العبثي أي العيش مدركًا تمامًا لمرارة كياننا ومواجهة مصيرنا بوعي.

فماذا إذن رد كامو على سؤاله حول ما إذا كان سينتحر أم لا؟ الوعي الكامل وتجنب الحلول الزائفة كالدين ورفض الخضوع والاستمرار بالحيوية والحدة، فهذه هي إجابات كامو، وهذه هي الطريقة التي تجعل الحياة بدون المعنى النهائي تستحق العيش، وكما قال في كتابه الأعراس ملذات الحياة لا تنفصل عن الوعي الشديد بهذه الحدود، ويقبل سيزيف ويعانق العيش مع الموت دون إمكانية مناشدة الله: “فكل فرح سيزيف الصامت وارد فيه، ومصيره ملكه، صخرته شيء له”.

يعيش سيزيف بشكل واضح الحالة الإنسانية حيث يعرّف نفسه أنّه سيد أيامه، ويوضح كامو إنّه بإدراكه لها فإنّه يأخذها، وبهذا المعنى يعيد سيزيف تشكيل مصيره إلى حالة أصل بشري كامل، وقد تكون كلمة (كليًا) مبالغة لأنّه بعد كل شيء فإنّ الموت أمر لا مفر منه ومحتقر، ولكن من خلال الاعتراف بذلك فإنّ سيزيف يعيش بوعي ما فُرض عليه وبالتالي يجعله في نهايته.

وبنفس الطريقة جاء مورسو بطل الرواية من الغريب، إلى الوعي في الجزء الثاني من هذا الكتاب بعد ارتكاب جريمة القتل التي لا يمكن تفسيرها والتي أنهت الجزء الأول من الكتاب، فلقد عاش وجوده من لحظة إلى أخرى وبدون وعي كبير، ولكن في محاكمته وأثناء انتظار الإعدام أصبح مثل سيزيف مدركًا تمامًا لنفسه ومصيره الرهيب وسيموت منتصرًا كرجل سخيف.

إنّ أسطورة سيزيف بعيدة كل البعد عن الاستنتاج المشكك، وردًا على إغراء الانتحار ينصح كامو بعدم اتخاذ قرار واعٍ ونشط بشكل مكثف، كما إنّ رفض أي أمل في حل التوتر هو أيضًا رفض اليأس، وفي الواقع من الممكن داخل هذه الحدود وضدها التحدث عن السعادة: “السعادة والعبثي ابنان لنفس الأرض، ولا ينفصلان”.

ليس الأمر أنّ اكتشاف العبث يؤدي بالضرورة إلى السعادة بل بالأحرى أنّ الاعتراف بالعبثية يعني أيضًا قبول ضعف الإنسان وإدراك حدوده، وحقيقة أنّه لا يستطيع إلّا أن يرغب في تجاوز ما هو ممكن، وهذه كلها رموز لكونه على قيد الحياة بشكل كامل: “النضال نفسه نحو المرتفعات يكفي لملء قلب الرجل، ويجب أن يتخيل المرء سيزيف سعيدًا”.


شارك المقالة: