فلسفة كامو وتطورها

اقرأ في هذا المقال


كان ألبير كامو ممثلًا للأدب الفرنسي غير الحضري، حيث كانت أصوله في الجزائر وخبراته هناك في الثلاثينيات من القرن الماضي هي التي طغت على المؤثرات في فكره وعمله، ومن الآباء شبه البروليتاريين الملتحقين في وقت مبكر بالدوائر الفكرية ذات الاتجاهات الثورية القوية، مع اهتمام عميق بالفلسفة (التي لم تمنعه ​​الصدفة فقط من متابعة مهنة جامعية في هذا المجال)، مع المؤثرات الأخرى التي ساعدت في بناء فكره وفلسفته الحاضرة الآن.

كامو فيلسوف أم كاتب:

اعتبر كامو نفسه أولاً وقبل كل شيء كاتبًا (un ecrivain)، وفي الواقع كتب مستشار أطروحة كامو في رسالته التقييم بأنّه كاتب أكثر منه فيلسوف، وفي أوقات مختلفة من حياته المهنية قبل أيضًا المسمى الصحفي والإنساني والروائي وحتى الأخلاقي، ومع ذلك من الواضح أنّه لم يشعر أبدًا بالراحة في تعريف نفسه على أنّه فيلسوف، وهو مصطلح يبدو أنّه ربطه بتدريب أكاديمي صارم وتفكير منهجي واتساق منطقي وعقيدة أو مجموعة أفكار متماسكة ومحددة بعناية.

هذا لا يعني أنّ كامو يفتقر إلى الأفكار أو القول بأنّ فكره لا يمكن اعتباره فلسفة شخصية، كما إنّه ببساطة للإشارة إلى أنّه لم يكن مفكرًا منهجيًا أو حتى مفكرًا منضبطًا بشكل ملحوظ، وأنّه على عكس الفلاسفة مارتن هايدجر وجان بول سارتر، على سبيل المثال أظهر القليل جدًا من الاهتمام بالميتافيزيقيا والأنطولوجيا، والذي يبدو أنّه أحد الأسباب التي جعلته دائمًا نفى أنّه كان وجوديًا.

باختصار لم يكن يعطيه الكثير للفلسفة التأملية أو أي نوع من التنظير التجريدي، وبدلاً من ذلك يرتبط فكره دائمًا بالأحداث الجارية (على سبيل المثال الحرب الإسبانية والثورة في الجزائر) وهو يرتكز باستمرار على الواقع الأخلاقي والسياسي الواقعي.

الخلفية والتأثيرات:

على الرغم من أنّه تم تعميده وتربيته وتعليمه ككاثوليكي ويحترم الكنيسة دائمًا، ولكن يبدو أنّ كامو كان وثنيًا بالفطرة ولم يُظهر أي غريزة على الإطلاق للإيمان بما هو خارق للطبيعة، وحتى عندما كان شابًا كان يعبد الشمس ومن محبي الطبيعة أكثر من كونه صبيًا معروفًا بتقواه أو إيمانه الديني، ومن ناحية أخرى لا يمكن إنكار أنّ الأدب والفلسفة المسيحية كان لهما تأثير مهم على فكره المبكر وتطوره الفكري.

كطالب شاب في المدرسة الثانوية درس كامو الكتاب المقدس وقرأ وتذوق المتصوفة الإسبان القديسة تيريزا من أفيلا والقديس جون من كروس، وقد تم تقديمه إلى فكر القديس أوغسطين في وقت لاحق ليكون موضوعًا لأطروحته في البكالوريا وأصبح -ككاتب شمال أفريقي وشبه وجودي وناقد ضميري لحياته- مهمًا مدى الحياة تأثير.

استوعب كامو في الكلية كيركجارد الذي ربما كان بعد أوغسطين أعظم تأثير مسيحي على فكره، كما درس الفيلسوفان الألمانيان آرثر شوبنهاور وفريدريك فيلهيلم نيتشه، وهما بلا شك الكاتبان اللذان قاما بأقصى ما في وسعه لوضعه على طريقه الخاص من التشاؤم والإلحاد.

التأثيرات البارزة الأخرى لا تشمل فقط الفلاسفة المعاصرين الرئيسيين من المناهج الأكاديمية -من الفلاسفة رينيه ديكارت وباروخ سبينوزا إلى الفيلسوف الفرنسي هنري لويس بيرجسون- ولكن أيضًا وبنفس الأهمية الكتاب الفلسفيون مثل الكاتب الفرنسي ستيندال والروائي الأمريكي هيرمان ملفيل والروائي الروسي فيودور دوستويفسكي والروائي فرانز كافكا.

تطوير أفكار كامو كفيلسوف:

أقدم تعبيرين عن فلسفة كامو الشخصية هما أعماله ما بين وبين (Betwixt and Between) عام 1937 وأعراس (Nuptials) عام 1938، وهنا يكشف عن ما هو في الأساس احتفال بهوي، بل في الواقع شبه بدائي بالطبيعة وحياة الحواس، وفي التقليد الشعري الرومانسي لكتاب مثل ريلكه ووالاس ستيفنز، ويقدم رفضًا قويًا لكل ما قبله واحتضانًا أكيدًا لما هو موجود الآن، ويجادل بأنّه لا يوجد خلاص ولا تجاوز، حتى لا يوجد سوى التمتع بالوعي والوجود الطبيعي وهي حياة واحدة، وهذه الحياة تكفي، فالسماء والبحر والجبل والصحراء لها جمالها وروعتها وتشكل جنة كافية.

وصف الناقد جون كروكشانك هذه المرحلة في تفكير كامو بـ (الإلحاد الساذج) وعزاها إلى البحر الأبيض المتوسط المنتشي وغير الناضج إلى حد ما، كما تبدو السذاجة توصيفًا مناسبًا لفلسفة عاطفية جريئة وغير معقدة ولكنها تفتقر إلى حد ما إلى التعقيد والوضوح المنطقي، ومن ناحية أخرى إذا أخذنا في الاعتبار الخلفية المسرحية لكامو وتفضيله للعرض الدرامي فقد يكون هناك عمقًا وتعقيدًا لفكره هنا أكثر مما تراه العين.

وهذا يعني تمامًا كما سيكون من التبسيط والاختزال مساواة فلسفة كامو في التمرد بفلسفة شخصيته كاليجولا (الذي هو في أفضل الأحوال متحدثًا متطرفًا أو مجنونًا للمؤلف)، لذلك بنفس الطريقة يكون ذلك ممكنًا، كما إنّ الخواطر والآراء المقدمة في العرائس و (Betwixt) و (Between) ليست آراء كامو بقدر ما هي ملاحظات شاعرية لراوي متقن الصنع، فالأنا المتغيرة الغزيرة التي هي أكثر عفوية وحرة من مؤلفه الأكثر تحفظًا بشكل طبيعي ورصين.

على أي حال وبغض النظر عن هذا التقييم للأفكار التي تم التعبير عنها في عمله ما بين وبين وعمله الآخر الأعراس، فمن الواضح أنّ هذه الكتابات المبكرة تمثل مرحلة بداية مهمة وإن كانت أولية وبسيطة نسبيًا، وفي تطور كامو كمفكر حيث تختلف وجهات نظره بشكل ملحوظ عن فلسفته الأكثر نضجًا من عدة جوانب جديرة بالملاحظة.

في المقام الأول لا يزال كتاب الأعراس لكامو الذي كان شابًا في الخامسة والعشرين من عمره مشتعلًا ببهجة الحياة، كما إنّه يفضل حياة الاندفاع والجرأة حيث تم تكريمها وممارستها في كل من الأدب الرومانسي وفي شوارع بلكورت، ومتزوج ومطلق حديثًا ونشأ في فقر وفي أماكن قريبة ويعاني من مشاكل صحية، حيث يطور هذا الشاب شغفًا مفهومًا بالهواء النقي والفضاء المفتوح والأحلام الملونة والآفاق البانورامية والآفاق والتحديات المذهلة للعالم الأوسع، وبالتالي فإنّ كامو في الفترة ما بين 1937-1938 هو كاتب مختلف تمامًا عن كامو الذي سيصعد المنصة في ستوكهولم بعد عشرين عامًا تقريبًا.

كامو الشاب هو أكثر من شخص حسي وطالب عن المتعة وأكثر من رائع وجميل وأكثر من كونه شخصية أكثر صلابة وتقشفًا، والذي سيتحمل الاحتلال أثناء خدمته في السرية الفرنسية، كما إنّه كاتب متحمس في اقتناعه بأنّ الحياة يجب أن تُعاش بشكل حي ومكثف، وفي الواقع بشكل متمرّد (لاستخدام المصطلح الذي سيكتسب أهمية متزايدة في فكره)، وهو أيضًا كاتب منجذب للقضايا على الرغم من أنّه ليس بعد المؤلف الذي سيشتهر عالميًا بجديته الأخلاقية والتزامه العاطفي بالعدالة والحرية وكل هذا مفهوم.

بعد كل شيء لم يكن كامو في منتصف الثلاثينيات قد شهد واستوعب المشهد المحطم والآثار المخيبة للآمال للحرب الأهلية الإسبانية، وصعود الفاشية والهتلرية والستالينية، وظهور الحرب الشاملة وأسلحة الدمار الشامل، والعهد الرهيب للإبادة الجماعية والإرهاب الذي ميز الفترة 1938-1945، وتحت الضغط والاستجابة المباشرة لأحداث هذه الفترة ظهرت فلسفة كامو الناضجة -بمجموعتها الأساسية من الموضوعات والأفكار الإنسانية- وتبلورت بشكل تدريجي.

لم تعد تلك الفلسفة الناضجة إلحادًا ساذجًا، بل هي نوع من عدم الإيمان شديد التأمل والنقد، كما إنّه متشائم بفخر وبلا هوادة ولكن ليس بطريقة جدلية أو متعجرفة، وإنّه لا ينضب وعنيد ومتشكك بعزم، حيث إنّها فلسفة متسامحة ومحترمة للمعتقدات الدينية العالمية، ولكنها في نفس الوقت غير متعاطفة معها على الإطلاق، وإنّها في النهاية فلسفة إيجابية تقبل وتوافق وبطريقتها الخاصة تبارك فنائنا المروع وعزلتنا الأساسية في العالم.


شارك المقالة: