فلسفة مونتسكيو بالقانون والتجارة

اقرأ في هذا المقال



“أصبح من الضروري أن يحكم الأمراء بحكمة أكثر مما كانوا يتخيلون، لأنّ مجهودات السلطة العظيمة، وفي هذه الحالة وُجدت غير حكيمة فبدأنا نتعافى من الميكافيلية، وكل يوم أصبح المزيد من الاعتدال ضروريا في مجالس الأمراء، وما كان سيطلق عليه سابقًا ضربة رئيسية في السياسة سيكون الآن بغض النظر عن الرعب الذي قد يسببه أعظم حماقة، حيث يسعد الرجال أنّهم في وضع تدفعهم فيه عواطفهم إلى أن يكونوا أشرارًا لكن من مصلحتهم أن يكونوا إنسانيين وفاضلين.”

الفيلسوف مونتسكيو

العمل الفلسفي روح القوانين:

هدف مونتسكيو في روح القوانين هو شرح القوانين الإنسانية والمؤسسات الاجتماعية، وقد يبدو هذا مشروعًا مستحيلًا، أي على عكس القوانين الفيزيائية التي وضعها الله ودعمها، فوفقًا لمونتسكيو فإنّ القوانين الوضعية والمؤسسات الاجتماعية يتم إنشاؤها من قبل بشر غير معصومين من الخطأ فكتب: “يخضعون للجهل والخطأ وهُرِعَ بآلاف المشاعر المتهورة”، لذلك قد يتوقع المرء ألّا تكون قوانيننا ومؤسساتنا مفهومة أكثر من أي فهرس آخر للحماقات البشرية، وهو توقع يبدو أنّ التنوع الهائل للقوانين التي اعتمدتها المجتمعات المختلفة يؤكده.

ومع ذلك يعتقد مونتسكيو أنّ هذه الفوضى الواضحة يمكن فهمها أكثر مما قد يعتقده المرء، ومن وجهة نظره فإنّ المفتاح لفهم القوانين والأنظمة الاجتماعية المختلفة هو الاعتراف بضرورة تكييفها مع مجموعة متنوعة من العوامل المختلفة، ولا يمكن فهمها بشكل صحيح ما لم يأخذها المرء في الاعتبار في ضوء ذلك، وعلى وجه التحديد يجب تكييف القوانين فكتب:

“مع الأشخاص الذين تم تأطيرها من أجلهم مع طبيعة ومبدأ كل حكومة ولمناخ كل بلد ونوعية تربتها ووضعها ومداها، إلى المهنة الرئيسية للسكان الأصليين سواء كانوا فلاحين أو صيادين أو رعاة، أي يجب أن تكون لهم علاقة بدرجة الحرية التي سيتحملها الدستور، حيث أنّ بدين السكان وبميولهم وثرواتهم وأعدادهم وتجارتهم وأخلاقهم وعاداتهم، حيث لديهم علاقات مع بعضهم البعض، كما هو الحال أيضًا مع أصلهم وبنية المشرع وبترتيب الأشياء التي تم تأسيسها عليها، وفي كل هذه الأضواء المختلفة يجب النظر إليها “.

عندما ننظر إلى النظم القانونية والاجتماعية فيما يتعلق بهذه العوامل المختلفة كما يعتقد مونتسكيو سنجد أنّ العديد من القوانين والمؤسسات التي بدت محيرة أو حتى منحرفة هي في الواقع مفهومة تمامًا.

إن فهم سبب وجود القوانين التي نطبقها مهم في حد ذاته، ومع ذلك فإنّه يخدم أيضًا أغراض عملية، والأهم من ذلك أنّها ستثني محاولات الإصلاح المضللة، مونتسكيو ليس طوباويًا (مثاليًا) سواء عن طريق المزاج أو الاقتناع، وإنّه يعتقد أنّ العيش في ظل حكومة مستقرة غير استبدادية تترك مواطنيها الملتزمين بالقانون أحرارًا إلى حد ما في عيش حياتهم هو خير عظيم ولا ينبغي العبث بمثل هذه الحكومة بسهولة.

إذا فهمنا نظام حكومتنا والطرق التي يتم بها تكييفه مع ظروف بلدنا وشعبه فسنرى أنّ العديد من سماته غير المنطقية على ما يبدو منطقية بالفعل، وأنّ إصلاح هذه الميزات سيكون في الواقع إضعافها، وهكذا على سبيل المثال قد يعتقد المرء أنّ الحكومة الملكية ستتعزز من خلال إضعاف طبقة النبلاء وبالتالي إعطاء المزيد من السلطة للملك، فمن وجهة نظر مونتسكيو هذا خطأ حيث إنّ إضعاف تلك الجماعات أو المؤسسات التي تتحقق من سلطة الملك هو المخاطرة بتحويل الملكية إلى استبداد وهو شكل من أشكال الحكومة البغيضة وغير المستقرة.

سيساعدنا فهم قوانيننا أيضًا في معرفة الجوانب التي تحتاج حقًا إلى الإصلاح وكيف يمكن تحقيق هذه الإصلاحات؟، على سبيل المثال يعتقد مونتسكيو أنّ قوانين العديد من البلدان يمكن أن تكون أكثر ليبرالية وأكثر إنسانية وأنّه يمكن في كثير من الأحيان تطبيقها بشكل أقل تعسفية مع نطاق أقل للاستخدام القمعي وغير المتوقع لسلطة الدولة.

وبالمثل يمكن إلغاء الاضطهاد الديني والعبودية ويمكن تشجيع التجارة، وستعمل هذه الإصلاحات بشكل عام على تقوية الحكومات الملكية لأنّها تعزز حرية وكرامة المواطنين إذا فهم المشرعون العلاقات بين القوانين من ناحية وظروف بلدانهم ومبادئ حكوماتهم من ناحية أخرى، فسيكونون في وضع أفضل لتنفيذ مثل هذه الإصلاحات دون تقويض الحكومات التي يسعون إلى تحسينها.

التجارة في فلسفة مونتسكيو:

يعتقد مونتسكيو أنّ التجارة هي السبيل الوحيد من بين جميع الطرق التي قد يسعى البلد من خلالها إلى إثراء نفسه، وإنّ قهر الجيران من البلدان ونهبهم يمكن أن يوفر دفعات مؤقتة من الأموال، ولكن بمرور الوقت فإنّ تكاليف الحفاظ على جيش احتلال وإدارة الشعوب المقهورة تفرض ضغوطًا لا يمكن أن يتحملها عدد قليل من البلدان.

واستخراج المعادن النفيسة من المناجم الاستعمارية يؤدي إلى تضخم عام، وبالتالي تزداد تكاليف الاستخراج بينما تنخفض قيمة المعادن المستخرجة، وزيادة توافر الأموال يعزز تنمية التجارة في البلدان الأخرى، ومع ذلك في البلد الذي يستخرج الذهب والفضة يتم تدمير الصناعة المحلية.

مزايا التجارة في فلسفة مونتسكيو:

التجارة على النقيض من ذلك ليس لها مثل هذه العيوب:

  1. إنّها لا تتطلب جيوشاً ضخمة أو استمرار إخضاع شعوب أخرى.
  2. إنّه لا يقوض نفسه كما يفعل استخراج الذهب من المناجم الاستعمارية ويكافئ الصناعة المحلية، لذلك فهي تدعم نفسها والدول التي تشارك فيها بمرور الوقت.
  3. بالإضافة إلى ذلك فهو علاج لأكثر التحيزات تدميراً ويحسن الأخلاق ويؤدي إلى السلام بين الأمم.

يرى مونتسكيو في حين أنّ التجارة لا تنتج كل المزايا إلّا أنّها تنتج بعضًا أي إنّ روح التجارة تصاحبها بطبيعة الحال روح الاقتصاد والاعتدال والعمل والحصافة والطمأنينة والنظام والحكم.

يعتقد مونتسكيو أن الهدف من التجارة في الأنظمة الملكية ويتمثل في الغالب في توفير الكماليات في الجمهوريات وهو أن تجلب من بلد معينة ما هو مطلوب في بلد آخر فيكسب القليل ولكن يكسب باستمرار، وفي حالات الاستبداد هناك القليل جدًا من التجارة من أي نوع حيث لا يوجد أمن للملكية.

حيث في النظام الملكي لا ينبغي على الملوك ولا النبلاء الانخراط في التجارة لأنّ هذا من شأنه أن يجازف بتركيز الكثير من السلطة في أيديهم، وعلى نفس المنوال لا ينبغي أن تكون هناك بنوك في النظام الملكي لأنّ الكنز لا يصبح عظيماً حتى يصبح كنز الأمير، وعلى النقيض من ذلك في الجمهوريات فالبنوك مفيدة للغاية ويجب السماح لأي شخص بالمشاركة في التجارة، والقيود على المهنة التي يمكن أن يتبعها الشخص تدمر آمال الناس في تحسين أوضاعهم لذلك فهي مناسبة فقط للدول الاستبدادية.

في حين أن بعض رواد المذاهب التجارية جادلوا بأنّ التجارة هي لعبة محصلتها صفر عندما يربح البعض وبينما يخسر البعض الآخر بالضرورة، فيعتقد مونتسكيو أنّ التجارة تفيد جميع البلدان باستثناء أولئك الذين ليس لديهم سوى أراضيهم وما ينتجونه، ففي تلك البلدان التي تعاني من فقر مدقع ستشجع التجارة مع الدول الأخرى أولئك الذين يمتلكون الأرض على قمع أولئك الذين يعملون فيها وبدلاً من تشجيع تطوير الصناعات المحلية والتصنيع، ومع ذلك تستفيد جميع البلدان الأخرى من التجارة ويجب أن تسعى إلى التجارة مع أكبر عدد ممكن من الدول الأخرى لأنّ المنافسة هي التي تحدد قيمة عادلة للبضائع وتؤسس العلاقة بينها.

يصف مونتسكيو التجارة على أنّها نشاط لا يمكن تقييده أو التحكم فيه من قبل أي حكومة أو ملك، وهذا في رأيه كان دائمًا صحيحًا فقال: “أحيانًا يتم تدمير التجارة من قبل الغزاة، وأحيانًا مكتظة من قبل الملوك، وإنها تعبر الأرض وتطير من الأماكن التي تتعرض للقمع وتبقى حيث تتنفس بحرية”.

ومع ذلك تعزز استقلال التجارة بشكل كبير عندما استجاب اليهود خلال فترة القرون الوسطى للاضطهاد والاستيلاء على ممتلكاتهم من خلال اختراع خطابات التبادل، فأصبحت التجارة بهذه الطريقة قادرة على التملص من العنف والحفاظ على أرضها في كل مكان، وأغنى تاجر ليس له أي تأثيرات غير مرئية والتي يمكنه نقلها بشكل غير محسوس حيثما يشاء، وأدى هذا إلى تطورات جعلت التجارة أكثر استقلالية عن الملوك ونزواتهم.

هدف تطور التجارة في فلسفة مونتسكيو:

  1. أولاً يسرت تطوير الأسواق الدولية التي تضع الأسعار خارج سيطرة الحكومات، ووفقًا لمونتسكيو فإنّ النقود هي علامة تمثل قيمة كل البضائع، ويعتمد سعر البضاعة على كمية المال وكمية البضائع، وعلى كميات المال والبضائع المتداولة، ويمكن أن يؤثر الملوك على هذا السعر من خلال فرض تعريفات أو رسوم على سلع معينة، ولكن نظرًا لأنّهم لا يستطيعون التحكم في مبالغ الأموال والبضائع المتداولة داخل بلدانهم ناهيك عن المستوى الدولي فإنّ الملك لا يمكنه تحديد سعر البضائع أكثر مما يستطيع أن يحدد بمرسوم أنّ العلاقة من 1 إلى 10 هي يساوي ذلك من 1 إلى 20 بوصة إذا حاول الملك القيام بذلك فإنّه يلجأ إلى الكارثة.
  2. ثانيًا سمحت بتطوير عمليات تبادل العملات الدولية والتي تضع سعر صرف عملة الدولة إلى حد كبير خارج سيطرة حكومة ذلك البلد، ويمكن للملك إنشاء عملة وتحديد مقدار المعدن الذي يجب أن تحتويه كل وحدة من تلك العملة، ومع ذلك لا يمكن للملوك التحكم في أسعار الصرف بين عملاتهم وعملات البلدان الأخرى، وتعتمد هذه المعدلات على الندرة النسبية للمال في البلدان المعنية وهي ثابتة من خلال الرأي العام للتجار وليس بقرارات الأمير، لهذا السبب يميل تبادل كل الأماكن باستمرار إلى نسبة معينة وذلك في طبيعة الأشياء.
  3. أخيرًا يمنح تطور التجارة الدولية الحكومات حافزًا كبيرًا لتبني سياسات تحبذ أو على الأقل لا تعرقل تطورها، وتحتاج الحكومات إلى الحفاظ على الثقة في أهليتها الائتمانية إذا كانت ترغب في اقتراض الأموال، وهذا يردعهم على الأقل عن الأشكال الأكثر تطرفًا من عدم المسؤولية المالية ومن قمعهم إلى حد كبير أولئك المواطنين الذين قد يحتاجون لاحقًا إلى الاقتراض منهم.

ونظرًا لأنّ تطوير التجارة يتطلب توافر القروض يجب على الحكومات تحديد أسعار فائدة عالية بما يكفي لتشجيع الإقراض ولكن ليس مرتفعًا بحيث يجعل الاقتراض غير مربح، ويجب ألّا تكون الضرائب عالية لدرجة أنّها تحرم المواطنين من الأمل في تحسين أوضاعهم، ويجب أن تتيح القوانين لهؤلاء المواطنين حرية كافية للقيام بالشؤون التجارية، وبشكل عام يعتقد مونتسكيو أنّ التجارة كان لها تأثير مفيد للغاية على الحكومة منذ أن بدأت التجارة في التعافي بعد تطور خطابات التبادل وعودة الإقراض بالفائدة.



شارك المقالة: