“الهدف هنا هو التأكيد على مبدأ واحد بسيط للغاية، حيث يحق له التحكم بشكل مطلق في تعاملات المجتمع مع الفرد بطريقة الإكراه والسيطرة، سواء كانت الوسائل المستخدمة هي القوة الجسدية في شكل عقوبات قانونية أو الإكراه الأخلاقي للرأي العام.
جون ستيوارت ميل – حول الحرية
هذا المبدأ هو أنّ الغاية الوحيدة التي من أجلها يُبرر للبشرية بشكل فردي أو جماعي، التدخل في حرية عمل أي فرد من أفرادها هو الحماية الذاتية، وأنّ الغرض الوحيد الذي من أجله يمكن ممارسة السلطة بشكل صحيح على أي فرد من أفراد المجتمع المتحضر رغماً عنه هو منع إلحاق الأذى بالآخرين، ومصلحته سواء المادية أو المعنوية ليست ضماناً كافياً، فلا يجوز إجباره على فعل ذلك أو تحمله لأنّه من الأفضل له أن يفعل ذلك لأنّه سيجعله أكثر سعادة، أو لأنّه في رأي الآخرين سيكون من الحكمة أو حتى الصواب.
وهذه أسباب وجيهة للمعارضين معه أو استجوابهم أو إقناعه أو استعطافه ولكن ليس لإكراهه أو زيارته بأي منكرات في حال فعل غير ذلك، ولتبرير ذلك يجب أن يُحسب السلوك الذي يُرغب في ردعه على أنّه ينتج الشر لشخص آخر، والجزء الوحيد من سلوك أي شخص والذي يكون مناسباً له تجاه المجتمع هو ما يتعلق بالآخرين، وفي الجزء الذي يهم نفسه فقط يكون استقلاله حقًا مطلقًا على نفسه وعلى جسده وعقله ويكون الفرد صاحب السيادة“.
فلسفة ميل في الحرية الشخصية:
حجة ميل لحرية الشخصية (الفردية) والتي ناقشها في عمله الفلسفي حول الحرية (On Liberty) في الفصل الثالث وقد تناولها في منحى ذو شقين:
- من ناحية يجادل ميل بأنّه من الأفضل للأفراد منحهم الحرية والفضاء لتطوير شخصيتهم الخاصة، وحجة ميل هنا هي نبرة رومانسية، مع التأكيد على ذلك نظرًا لأنّ الأفراد المختلفين لديهم طبائع مختلفة، ويجب منحهم مساحة لاكتشاف وتطوير شخصياتهم وطرق عيشهم.
- ومن ناحية أخرى يجادل بأنّه الأفضل للمجتمع أيضًا.
الطبيعة البشرية ليست آلة تُبنى على نموذج ما، وتنفذ بالضبط العمل الموصوف لها، بل هي شجرة تتطلب أن تنمو وتتطور من جميع الجوانب، ووفقًا لميل فإنّ القوى الداخلية هي التي تجعلها كل شيء حي.
وإنّ التنوع الأساسي للبشر يعني أنّه ليس من المثمر وجود توقع بأنّ جميع الأفراد سيعيشون بطريقة مماثلة، وبهذا المعنى فإنّ الحجة عملية هي أنّ نمط حياة واحد من غير المرجح أن يناسب جميع الأذواق الفردية، ولكن ميل يشير أيضًا إلى أنّ من السمات الأساسية للحياة الجيدة أن تكون حياة يختارها المرء لنفسه.
ومن الممكن أن يتم توجيهه في طريق جيد ما، ولكن ما هي قيمته النسبية كإنسان؟ وإنّه حقًا مهم ليس فقط ما يفعله الرجال ولكن أيضًا ما هي طريقة الرجال الذين يفعلون ذلك.
جنبا إلى جنب مع المفكرين الآخرين في تلك الفترة – أرنولد ونيتشه ووشيلر وكلها نقاط مفيدة للمقارنة – يعتقد ميل أنّ الخطر الكبير للمجتمع الجماهيري هو القمع الذاتي والامتثال، مما يؤدي إلى استنفاد الطاقة البشرية والإبداع، وادعى أنّ المجتمع الفيكتوري تحكمه روح اللياقة القائمة على (إنكار الذات المسيحي)، ولكن في المقابل يشجع ميل النموذج (اليوناني للتطور الذاتي)، وهو يعتقد أنّ الأفراد الذين يتمتعون بحسن الإدارة والأصالة والعفوية هم الأكثر سعادة حقًا.
من المهم أيضًا للمجتمع على نطاق أوسع أن يكون الأفراد أحرارًا في تطوير طرق معيشتهم الخاصة، ومن المفيد أن يكون لدى الفرد مجموعة متنوعة غنية من تجارب الحياة معروضة في أي مجتمع معين، وذلك للسماح للأفراد أن يستلهموا من مجموعة واسعة من أشكال الحياة الممكنة، حيث يعتقد ميل أنّ التنوع الموجود في مثل هذا السياق هو مفتاح الحفاظ على التقدم الاجتماعي، ويوفر (تنوع الشخصية والثقافة) ومحركًا للتوتر الإنتاجي الذي يدفع الأمة إلى الأمام، والتي بدونها يخشى ميل من (الاستقرار الصيني).
إنّ استبداد العرف في كل مكان هو العائق الدائم للتقدم البشري، وكونه في تناقض مستمر مع تلك النزعة الهادفة إلى شيء أفضل من العُرف، وهو ما يسمى حسب الظروف وروح الحرية أو روح التقدم أو التحسن.
فلسفة ميل في نطاق مبدأ الضرر:
أما في الفصلين الرابع والخامس من عمله الفلسفي (حول الحرية)، يتحول اهتمام ميل من الدفاع العام عن الآثار المفيدة للحرية إلى استكشاف أي الأعمال على وجه الخصوص يجب أو لا ينبغي أن تخضع للتدخل، ويسترشد نطاق الإكراه المشروع (بمبدأ الضرر):
“الغرض الوحيد الذي من أجله يمكن ممارسة السلطة بشكل صحيح على أي فرد من أفراد المجتمع المتحضر رغماً عنه هو منع إيذاء الآخرين”.
ويمكن التعدي على تصرف الفرد بشكل شرعي إذا وفقط إذا كان هذا الإجراء قد يؤذي فردًا آخر، وبالطبع قد لا يكون من الحكمة التدخل في جميع الحالات التي يكون فيها ذلك مشروعاً، وبهذا المعنى فإنّ المبدأ ينص فقط على الشروط التي يُسمح فيها بالتدخل وليس الشروط التي يكون بموجبها مرغوبًا فيه.
يستبعد ميل التدخل في ذلك الجزء من حياة الشخص الذي لا يهم إلّا نفسه، وفي المقام الأول لأنّ الأفراد بمجرد وصولهم إلى نضج ملكاتهم يصبحون أكثر كفاءة بكثير فيما يتعلق بمصلحتهم من الآخرين.
أما فيما يتعلق بمشاعره وظروفه فإنّ الرجل أو المرأة عاديين فإنّه لديه أو لديها وسائل معرفة تفوق بما لا يقاس تلك التي يمكن أن يمتلكها أي شخص آخر، ويجب أن يستند تدخل المجتمع لنقض حكمه وأهدافه فيما يتعلق به فقط إلى افتراضات عامة، حيث التي قد تكون خاطئة تمامًا وحتى لو كانت صحيحة فمن المحتمل ألّا يساء تطبيقها على الحالات الفردية. وعلى هذا النحو يجب أن يكون هناك افتراض عام ضد المحاولات الأبوية للتدخل في سلوك الفرد تجاه الذات من أجل مصلحته.
يقر ميل بسهولة أنّه لا يوجد سلوك يتعلق بالذات بمعنى أنه يؤثر فقط على الفاعل نفسه، فكتب معترفًا: “لا يوجد إنسان هو كائن منعزل تمامًا ولكن فقط عندما ينتهك الفرد التزامًا مميزًا وقابلًا للتنازل عن أي شخص أو أشخاص آخرين، يتم إخراج القضية من فئة احترام الذات”، وبالمعنى الذي يقصده ميل إذن نحن نؤذي فردًا فقط عندما ننتهك التزامًا تجاه ذلك الفرد، والضرر الذي يلحقه المثال السيئ الذي قدمه شاربي الخمر للآخرين لا يقدم أي سبب مشروع للتدخل في سلوكه، حيث إذا تسبب شارب الخمر في انتهاكه للالتزام بإعالة أسرته فإنّ هذا الفعل يشكل ضررًا وقابل للتدخل.
وينصب اهتمام ميل في جميع أنحاء حول الحرية (On Liberty)، على الحفاظ على حرية الفرد ليس فقط في مواجهة تهديد الإكراه التشريعي أو الدولة ولكن أيضًا من التهديد بأشكال أكثر خداعًا من الإكراه الاجتماعي، وفي المجتمع الجماهيري يمكن أن تكون أحكام القضاء على المتلألئة وحملات التشهير الهمسية (وهي خطة لتشويه سمعة شخصية عامة من خلال توجيه اتهامات كاذبة أو مشكوك فيها) أكثر خطورة من أعمال الاستبداد الرسمية، بحيث تتغلغل بعمق أكبر في تفاصيل الحياة وتستعبد الروح نفسها.
ومع ذلك بالطبع يرى ميل أنّ الأفراد أنفسهم أحرار في تكوين آراء غير مواتية حول شخصية الآخرين، فنحن أحرار في الاحتجاج مع أي فرد لتجنبه وتشجيع الآخرين على تجنبه وهذا حقنا، ولكن ليس (لاستعراض التجنب)، ومع ذلك من الصعب بالتأكيد رسم الخط الفاصل بين الاستخدام المشروع وغير المشروع لحريتنا.