“التفكير في أنّه نظرًا لأن أولئك الذين يمارسون السلطة في المجتمع يمارسون في نهاية المطاف سلطة الحكومة، فلا جدوى من محاولة التأثير على دستور الحكومة من خلال العمل على أساس الرأي، هو نسيان أنّ الرأي في حد ذاته هو واحد من أعظم القوى الاجتماعية النشطة، وشخص واحد لديه معتقد هو قوة اجتماعية تساوي تسعة وتسعين الذين لديهم اهتمامات فقط “.
جون ستيوارت ميل -اعتبارات حول الحكومة التمثيلية
فلسفة ميل بين الوصول إلى المعرفة والسلطة الفكرية:
يعتقد ميل أنّه لا يمكننا امتلاك معرفة حقيقية مسبقًا، كما أنّه يرى أنّ إحدى النتائج المهمة لهذا الادعاء العام هي أنّ المعرفة في الأمور السياسية والأخلاقية وكذلك في العلوم الفيزيائية يصعب اكتسابها أكثر من أولئك الذين يلجؤون مباشرة إلى الحدس أو الفطرة السليمة، وتفوق حاجة الفرد للمعرفة إلى حد بعيد إمكانية الملاحظة الفردية، وعلى هذا النحو يجب اكتساب الغالبية العظمى من معرفتنا على أساس الشهادة.
“لا أستسلم لأي شخص في درجة الذكاء التي أعتقد فيها أنّ الناس قادرون عليها، ولكنني لا أعتقد أنّه إلى جانب هذا الذكاء سيكون لديهم فرص كافية للدراسة والخبرة ليصبحوا أنفسهم ملمين بشكل مألوف بجميع الاستفسارات التي تؤدي إلى الحقائق التي من الجيد أن ينظموا سلوكهم بها، ولتلقي في أذهانهم كل الأدلة التي جمعت منها تلك الحقائق، والتي هي ضرورية لتأسيسها، وطالما أنّ اليوم يتكون من أربع وعشرين ساعة وعمر الإنسان يمتد إلى الستين، فإنّه ستحتاج الغالبية العظمى من البشر إلى الجزء الأكبر من وقتهم ومجهودهم للحصول على حياتهم اليومية خبز”.
في العصور السابقة كان وجود طبقة من المرح والروحانية يعني أنّه كان من السهل نسبيًا تحديد من يمتلك السلطة الفكرية للعمل كقادة في الفكر والعمل، ولكن فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر شوّهوا مصداقية هذه الأشكال الموثوقة للسلطة مما زاد من صعوبة التمييز بين (الرأي الراسخ) و(الدجال)، حيث إنّ صعود الأغلبية العددية في العصر الحديث يعني أنّ الفرد كان عرضة لأن يصبح ضائعًا جدًا في الحشد على الرغم من أنّه يعتمد أكثر فأكثر على الرأي، إلّا أنّه أكثر ميلًا للاعتماد بشكل أقل على الرأي الراسخ.
فلسفة ميل في حق التصويت والاقتراع:
في نهاية المطاف لا يزال ميل متفائلاً بشأن آفاق الفرد الحديث للتنقل بنجاح بشكل مستقل في هذا الحشد وتحديد الأصوات الجديرة بالاحترام.
“لم تقم أي حكومة ديمقراطية أو أرستقراطية عديدة على الإطلاق أو يمكن أن ترتفع فوق المستوى المتوسط، باستثناء ما يتعلق بالسيادة التي سمح الكثيرون لأنفسهم (وهو ما فعلوه دائمًا في أفضل الأوقات) بتوجيهات ونفوذ واحد أو قليل من الموهوبين والمعلمين، وشرف ومجد الرجل العادي هو أنّه قادر على اتباع تلك المبادرة، حيث أن يتجاوب داخلياً مع الحكمة والنبيلة ويقود إليها بعينه مفتوحتان”.
ومع ذلك فهو يدرك أنّ الجهد مطلوب للحفاظ على قدرة الفرد على التعرف على هذه الأصوات والاستجابة لها وتنميتها، وبالطبع يجب أن يلعب التعليم الرسمي دورًا مهمًا في الحفاظ على جمهور مستنير يعرف ما يكفي ليكون قادرًا على تمييز أولئك الذين يعرفونهم بشكل أفضل، ولكن ميل يتطلع أيضًا إلى مؤسسة الديمقراطية لمساعدة نفسها في ترسيخ تأثير النخب.
رأى ميل أنّ التوسع الديمقراطي للامتياز أمر لا مفر منه ويجب الترحيب به، فقد ضمنت حيازة التصويت أنّ مصالح الفرد سيتم تمثيلها، والأهم من ذلك كان لها تأثير تعليمي وتثقيفي على الجمهور، وكانت المشاركة الفعالة في صنع القرار الجماعي كما قال ميل جزءًا من الحياة الطيبة والسعيدة، لذلك كان يؤيد توسيع نطاق التصويت ليشمل جميع أولئك الذين لم يعتمدوا على الدعم العام ولديهم كفاءة أساسية في القراءة والكتابة والحساب.
فكتب ميل:”ولكن على الرغم من أنّ كل شخص يجب أن يكون له صوت، وأن يكون لكل شخص صوت متساوٍ هو اقتراح مختلف تمامًا”، كما يرى ميل أنّه في نظام ديمقراطي مثالي فإنّ أولئك الذين يحق لآرائهم الحصول على قدر أكبر من الاعتبار سيتم إعطاؤهم مزيدًا من الاعتبار مع تحديد مستوى التعليم لعدد الأصوات التي يمكن أن يدلي بها الشخص.
إنّ نظام التصويت الجماعي لن يقاوم نزعة الديمقراطية إلى الانزلاق إلى حكم الغوغاء فحسب، بل سيجسد ويشير إلى المبدأ العام القائل بأنّ بعض الآراء تستحق الاهتمام أكثر من غيرها.
وليس من المفيد بل مؤذٍ أن يعلن دستور البلاد أنّ الجهل يستحق السلطة السياسية بقدر المعرفة، وعلى المؤسسات الوطنية أن تضع كل ما يهمها أمام عقل المواطن في ضوء أنّه من مصلحته أن يراعيها، ولصالحه أن يظن أنّ كل شخص هو يحق له بعض التأثير ولكن الأفضل والأكثر حكمة من غيره.
إنّ اهتمام ميل بضمان عدم فقدان الاعتراف بالخبرة الحقيقية في عصر الديمقراطية يكمن أيضًا في دعمه لنظام توماس هير للتمثيل النسبي، وبدلاً من قصر الاختيار على المرشحين المحليين، كان ميل يأمل في السماح للناخبين بالانضمام معًا وانتخاب المرشحين الأكثر تميزًا من جميع أنحاء البلاد، مما يؤدي إلى انتخاب النخبة في البلاد وممارسة التأثير داخل وخارج البلاد في البرلمان.
وتوجه وتقود الرغبة في الخبرة أيضًا اعتقاد ميل بأن الغرفة الثانية ستكون في أحسن الأحوال أن يكون مجلس شيوخ يتألف من أولئك الذين شغلوا سابقًا مناصب أو وظائف سياسية عالية، وبالتالي أثبتوا جودتهم على أنّهم قادة طبيعيون.
إنّ محاولة ميل لتأمين الظروف التي يمكن فيها التعرف على السلطات الحقيقية وسماعها وسط صخب المجتمع الديمقراطي ليست بالطبع محاولة لخنق الأصوات الأخرى، كما أنّها ليست محاولة لفرض إرادة الخبراء على أغلبية غير راغبة، وفي جميع الأوقات لا يزال ميل ملتزمًا بحرية الأفراد في اعتناق والتعبير عن آرائهم وسيادة إرادة الأغلبية في الأمور العامة.
وإنّ حساسيته تجاه الأخطار الحقيقية للغاية للشعبوية (وهو نهج سياسي يسعى إلى جذب الناس العاديين الذين يشعرون أنّ مجموعات النخبة القائمة تتجاهل مخاوفهم) في المجتمعات الحديثة، أي أنّه لم يُسمح له أبدًا بالتغلب على التزامه الأساسي بالديمقراطية الليبرالية باعتباره النظام السياسي الأكثر ملاءمة لتنمية مواطنة حرة ونشطة وسعيدة.