قصة المجاعة

اقرأ في هذا المقال


يُعتبر المؤلف والأديب أورخان باموق وهو من مواليد دولة تركيا من أبرز وأهم الكُتاب الذين اشتهروا في مجال الأدب التركي، إذ لاقت القصص والروايات التي صدرت عنه صدى واسع حول العالم، كما تمت ترجمتها إلى مختلف اللغات العالمية، وقد حصل على جائزة نوبل في الأدب وجائزة السلام الألمانية وجائزة أوفيد كتكريم على أعماله الأدبية العظيمة، ومن أكثر القصص التي اشتهر بها هي قصة المجاعة.

قصة المجاعة

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة في زمن كان يعرف باسم زمن المجاعة، حيث كان هناك رجل نحات كان قد عزم على استعمال الشعر الحقيقي والأظافر التي كان قد أخذها من جثث الموتى من أجل أن يقوم بتكملة التمثال الصخري الذي صنعه لنفسه، كما حصل على بقايا الملابس المهترئة من تلك الجثث، فقد كان في تلك الفترة قد كثر وقوع الجثث والموت جراء المجاعة الشرسة التي طرقت بيوت الفقراء والمعدمين، وعاثت تحطيمًا في أجسادهم وتمكنت منهم دون القدرة على الهروب أو الاستغاثة أو السيطرة عليها، وحصدت أرواحهم من أجسادهم، ومن فروا منها بقوا جائعين بأجساد ذات جلد يهدل على الأطراف وجسم نحيل يرتكز على عظام وهنة بعد أن ذاب دهنه إلى أقصى حد.

وقد كان هذا الرجل يعمل نحات موهوب بارع في ذلك الزمن، وهذا الزمن قد تم وصفه بأنه زمن الضنك والفقر والجوع، ولكن في ظل الظروف الطاغية في ذلك الوقت أصبح يعمل في حفر القبور ويعرف بلقب الحانوتي القاتم، إذ كان محترف في تشيع الموتى، كما كان يتقن إهالة التراب على الأجسام التي قتلها الجوع، ويقوم في تلك الثناء الحصول على باقي الأشياء التي يمتلكونها الموتى من أجسادهم، وقد كان ذلك الأمر لا يؤثر بشيء على الموتى من وجهة نظرة، إذ كان يستحوذ على تلك الأشياء لإكمال التمثال الذي صنعه من الصخر، حيث نحته في الصخر منذ زمن طويل، وأصبح شغله الشاغل هو كيف يقوم باستكمال ذلك التمثال حتى يخرج بالصورة التي أرادها.

فقد كان يفكر في طوال الوقت أن ينحته على شكل الحصان الذي يملكه السلطان، لكنه بعد ذلك تراجع عن الفكرة إذ علم أنّ السلطان يحب الخيل البرية لا الصخرية، ثم بعد ذلك فكر بأن يقوم بنحته على شكل فتاة جميلة ذات قوام ممشوق، لكن حالة الحرمان التي عاشها كانت ما زالت تتحرك بداخله، مما جعله يرث غصة كبيرة في داخله عملت على خنق أنامله، وهذا ما منعه من أن ينحته كما يحب.

وفي النهاية توصل إلى أن يقوم بنحته على شكل طفل صغير يجذب المارة بدموع مصنوعة من الصخور، حيث اعتقد في تلك الفترة أنه سوف يحصل على الكثير من المال بسبب هذا التمثال الحزين، إذ إن من كان في مثل حال ذلك الرجل يبدعون في فنون الحزن، وليس هذا الأمر بغريب على من هم أشباه هذا الرجل، إذ كانوا يعتقدون أن الفقر يأتي بالمجان والفقراء هم من يتقنون الفنون، في حين أنّ الأغنياء هم من يستمتعون بها فقط.

لكن حدوث المجاعة المفترسة في ذلك الوقت جعلته يتراجع عن تجسيد صورة طفل حزين في ذلك التمثال، كما انشغل بحوادث الموت اليومية وبالموتى، إذ كانت المجاعة قد داهمت كل الأماكن على غير غرة، فقد كان من المتوقع في ذلك الوقت أن الأمور سوف تزداد سوءًا يوماً بعد يوم، كما كان الحاكم في ذلك الوقت يضيق الخناق على الشعب، فيزيد من إرهاقهم بإلزامهم بدفع الضرائب، كما كان يشاركهم في كل شيء في حياتهم، حتى في أوقات سعادتهم، وفي ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد كان الحاكم يمارس الرياضات المفضلة لديه مثل ركوب الأحصنة ومطاردة الشهب في المجرات البعيدة.

بينما الشباب في تلك البلاد فما كانوا إلا مجرد قرابين ونذور للحروب التي كانت لا تعد ولا تحصى لكثرتها، والتي كانت تشتعل لأسباب غريبة ولا علاقة لهم بها، وفوق ذلك كله كانت تللك الفترة من حظ المرابين والتجار من أجل أن يقوموا باحتكار السلع والأغذية، فقد كانوا لا يمدون بها إلا من يمتلكون النقود الذهبية، ويبقى الشيء الوحيد الموجود بالمجان هو الهواء وهو الملاذ الوحيد لأصحاب البطون الخاوية.

المجاعة كانت قوية جداً إلى درجة أنه لا يمكن لأن تهزمها المؤن المدخرة والتي كانت ضئيلة جداً، فالمؤن العتيقة والأعمال ذات الأجور القليلة، والحدود التي كانت تحيط بالبلاد وهي عبارة عن حدود صحراوية تخنق المنطقة من جميع الجهات، كانت أشرس من أن يقوم أحد من الجياع بالهروب والفرار مما همّ وحلّ بهم، لذا فقد استسلم الجميع أمام الجوع والحرب التي كانت تشرع بالنصال اللامعة في وجوههم إثر تتبعهم لروائح الموائد المليئة بالأطعمة والتي يتمتع بها الأغنياء والمترفين في تلك الفترة، فأحكم الجوع بقبضته المهترئة على الجياع، وحصد أرواحهم دون رحمة أو عطف أو رأفة.

المشهد في تلك البلاد كان رهيب ومريب جداً، وذلك المنظر هو من احتل فكر النحات، وأملى على أطراف إزميله الصغير أن ينحت تمثالًا ضخماً على شكل مشهد الموت العجيب، إذ شبه الموت بأنه عملاق مظلم باللون الأسود يهلك الأجساد ويتمكن منها، وأنه يحمل بين يديه أشلاء وأعضاء شبه مهروسة تماماً، وتحت رجليه تسير الغربان لتأكل لحم الجثث، والتي في ذلك الوقت أصبحت تلك الغربان سمينة جداً جراء كثرة الجثث، ولكي يكون تمثاله أكثر صدق وتعبير حقيقي عن هيئة الموت، فقد حاول الحصول على الشعر الحقيقي من الموتى وأظافرهم وملابسهم وقام بتثبيتها بين يدي التمثال، فقد كان التمثال صورة حقيقية مجسدة للموت الذي قام بسخط الجياع دون رأفة بحالهم.

كما كان على الرغم من الظواهر الشائعة كالمجاعة والموت الرهيب وأنات المنكوبين لم تمنع كل تلك الأمور المترفين من أن يتمتعوا بما تحتويه به قرائح الملهمين الجياع وأيادي الفقراء، فأصبح ذلك المشهد كأنه ديوان الثقافة يقام معرض تسجيلي وتصوري للمجاعة، إذ شارك به الجائعون كممثلين حقيقين من جميع أنحاء البلاد، وقد كان قد انتصب التمثال للمجاعة وحصد الكثير من الجوائز العالمية، والصور والمقابلات التلفزيونية والصحفية في ذلك الوقت.

وفي تلك الأثناء اقتربت إحدى الإعلاميات الثريات ومن اللواتي يتمتعن بالترف الطاغي من النحات، وهنا سألته من باب الفضول ضاربة صفحًا عن حذائه المهترئ القديم الذي تظهر منه أصابع قميئة متسخة، وقالت له: هل أنت من قمت بصنع هذا التمثال؟ ابتسم النحات ابتسامة ساخرة، وقال لها دون أن يولي إليها أي اهتمام: بل أنتم من صنعتموه.


شارك المقالة: