قصة قصيدة جسمي غدا منزل الأسقام والمحن
أمّا عن مناسبة قصيدة “جسمي غدا منزل الأسقام والمحن” فيروى بأن الخليفة هارون الرشيد أرق في ليلة من الليالي، ولم يستطع النوم، وبقي يتقلب من جهة إلى جهة، وعندما تعب من ذلك، نادى على مسرور، وقال له: انظر لي أحدًا يسليني من الأرق الذي أنا فيه، فقال له: يا مولاي عليك أن تخرج إلى بستان القصر، وتتفرج على ما فيه من زهور، وتنظر إلى النجوم من فوقك، والقمر وهو مشرف على الماء، فقال له الخليفة: إن نفسي لا تريد أيًا من ذلك، فقال له: يا مولاي، إن عندك ثلاثمائة جارية، لكل جارية غرفة، وما عليك سوى أن تأمر كل واحدة منهن أن تختلي في غرفتها، وأنت تدور عليهن، وتنظر إليهن، فقال له: إن نفسي لا تريد شيئًا من ذلك.
فقال له مسرور: يا مولاي، مر علماء المدينة وشعرائها أن يحضروا إلى مجلسك، فيفيضوا في المباحث، وينشدون الأشعار، ويقصوا عليك الحكايات، فقال له الخليفة: إن نفسي لا تريد شيئًا من ذلك، فقال له: يا مولاي، مر الندماء والظرفاء أن يأتوك، ويتحفوك بالغريب من القصص، فقال له: إن نفس لا تريد شيئًا من ذلك، فقال له: يا مولاي، فاقطع لي رأسي، لعل ذلك ذلك يزيل أرقك، فضحك الخليفة، وقال له: انظر من بالباب من الندماء، فخرج ورأى من على الباب، ووجد علي بن منصور الخليع الدمشقي، وعاد إلى الخليفة، وأخبره بذلك، فأمره الخليفة أن يدخله، وعندما دخل، قال له الخليفة: أخبرني بخبر من أخبارك، فقال له علي بن منصور: هل أحدثك بشيء حدث معي، أم بشيء سمعت به، فقال له الخليفة: إن كنت رأيت شيئًا غريبًا فأخبرنا به.
فقال علي بن منصور: يا أمير المؤمنين، إن لي مبلغًا من المال آخذه من سلطان البصرة محمد بن سليمان الهاشمي في كل عام، وفي عام من الأعوام خرجت إليه كما اعتدت، وعندما وصلته كان متهيئًا للخروج إلى الصيد، فرددت عليه السلام، ورد سلامي، وقال لي: يا علي، اخرج معي إلى الصيد، فقلت له: والله ما لي قدرة على ذلك، فوضعني في قصره، وأوصى علي الخدم، ثم خرج، فأكرموني، فقلت في نفسي: لي عمر آتي إلى البصرة من بغداد، ولا أرى منها سوى القصر، فعلي أن أخرج وأتمشى بين أسواقها، فخرجت، وتمشيت في البصرة، وبينما أنا أسير لقيت باب كبير له حلقتان من نحاس، فوقفت أتفرج على ذلك المكان، وبينما أنا واقف سمعت صوت حزين ينشد:
جسمي غدا منزل الأسقام والمحن
من أجل ظبي بعيد الدار والوطن
وعرضا بي وقولاً في حديثكما
ما بال عبد بالهجران تتلفـه
فقلت: إن كانت صاحبة الصوت جميلة، فقد جمعت بين الجمال وحسن الصوت، ثم اقتربت من الباب، ورفعت الستارة، ونظرت إلى الداخل، فرأيت جارية شديدة الجمال، وكأن الشاعر قال فيها هذه الأبيات:
يا در ثغر الحبيب من نظمك
وأودع الراح والأقاح فمك
ومن أعار الصباح مبتسمـك
ومن بقفل العقيق قد ختمك
وأكمل علي قائلًا: وهي قد جمعت أنواع الجمال، وصارت فتنة لا يشبع من النظر إليها، وهي كما قال الشاعر:
إن أقبلت قتلت وإن هي أدبرت
جعلت جميع الناس من عشاقها
شمسـية بـدرية لـكـنـهـا
ليس الجفا والصد من أخلاقها
وأكمل علي قائلًا: وبينما أنا أنظر إليها، التفتت ورأتني، فقالت لجاريتها: انظري من على الباب، فقامت الجارية، وفتحت الباب، وقالت: ألا تستحي، فقلت لها: لا أظن بأني أتيت بعيب، فقالت السيدة: ألم تأت بعيب، وأنت تهجمت على بيتنا، ونظرت إلى حريم غير حريمك، فقلت لها: يا سيدتي، إني عطشان، وأردت أن أشرب الماء من عندكم، فقبلت اعتذاري، وأمرت جواريها أن يسقينه الماء، فأحضروا لي الماء، وشرب، وأنا استرق النظر إليها، وبعد أن شربت الماء، قالت لي امض في سبيلك، فقلت لها: إن فكري مشغول، فقال لي: بماذا؟، فقلت لها: في حال هذا الزمان، فقالت: هذا من حقك، لأن هذا الزمان ذو عجائب، ولكن ما الذي رأيته حتى تفكر في ذلك، فقلت لها: أفكر في صاحب هذا البيت لأنه صديقي، فقالت لي: ومن هو؟، فقلت لها: محمد بن علي الجوهري، فهل له أبناء؟، فقالت لي: نعم، له بنت اسمها بدور، ورثت ماله، فقلت لها: هل أنت بدور؟، فضحكت وقالت: نعم، ثم قالت: يا أخي لقد أطلت الحديث، فغادر، فقلت لها: ولكن أخبريني بشأنك قبل أن أغادر، فقالت: يا أخي، إن كنت من أهل الأسرار سوف أخبرك بخبري، فأخبرني من أنت، فقد قال الشاعر:
لا يكتم السر إلا كـل ذي ثـقة
والسر عند خيار الناس مكتـوم
قد صنت سري في بيت له غلق
وقد ضاع مفتاحه والبيت مختوم
فقلت لها: إن أردت أن تعلمي من أنا، فأنا علي بن منصور جليس الخليفة هارون الرشيد، وعندما عرفت من أنا نزلت من على كرسيها، وقالت لي: مرحبًا بك، الآن سوف أخبرك بخبري، وقالت: أنا عاشقة مفارقة، فقلت لها: أنت جميلة، ولا تعشقين إلا كل حسن، فمن الذي تحبينه، فقالت: أمير بني شيبان جبير بن عمير، ووصفته لي، فقلت لها: هل راسلته أو تواصلت معه؟، فقالت: نعم، ولكنه لم يوف بعهده، فقلت لها: ولم افترقتا؟، فقالت: نقل له واشون عني كلامًا مغلوطًا، ومنذ ذلك الحين لم يأتني منه كتاب، فقلت لها: وماذا تريدين مني، فقالت: أن تحمل له كتابًا مني، فإن أتيتني بجواب فلك مني خمسمائة دينار، وإن لم تأتني بجواب فلك مائة دينار، فوافقت، وقامت بكتابة كتاب له، وكتبت به:
حبيبي ما هذا التبـاعـد والـقـلا
فأين التغاضي بيننا والتـعـطـف
فإن كان قولاً صح أنـي قـلـتـه
فللقول تأويل وللقـول مـصـرف
ومن ثم ختمت الكتاب، وأعطتني إياه، فأخذته، وانطلقت إلى بيت جبير ، ووجدته في الصيد، فأخذت انتظره، وعندما أتى أعطيته الكتاب، وقرأ ما فيه، ومن ثم مزقه، ورماه، وقال لي: مهما كانت حاجتك سوف أقضيها ما عدا هذه، فقمت وأنا غاضب، ولكنه اصر على أن أجلس، وقال لي: سوف أخبرك بما قالت لك، فقلت له: أخبرني، فقال لي: لقد قالت لك: إن أتيتني بجواب فلك خمسمائة دينار، وإن لم تأتني فلك مائة، ومن ثم قال لي: لك مني خمسمائة دينار، وأقم عندي الليلة، فجلسنا نأكل ونشرب، وقلت له: ما في بيتم سماع؟، فنادى على بعض من جواريه، وقال: يا شجرة الدر، فأجابته شجرة الدر، واقتربت ومعها عود، وجلست، وأخذت تنشد قائلة:
نذر الزمان بأن يفرق شمـلـنـا
والآن قد أوفى الزمان بـنـذره
حكم الزمان فلا مرد لحـكـمـه
من ذا يعارض سيداً في أمـره
وعندما انتهت صرخ بها جبير صرخة، ومن ثم وقع مغشيًا عليه، فقالت لي إحدى الجواري: سامحك الله، إنا لا نحب أن نسمعه الشعر مخافة أن يحصل به هذا، فاذهب إلى تلك الغرفة ونم حتى الصباح، فهبت إلى الغرفة التي أشارت عليها، ونمت، وفي الصباح، أتاني غلام، ومعه خمسمائة دينار، وأعطاني إياها، وقال لي: هذا ما وعدك به سيدي، ولكن لا تعود إلى بدر، فقلت: سمعًا وطاعة.
وعندما خرجت، قلت في نفسي: إن بدر تنتظرني منذ الأمس، ولا بد أن أذهب إليها، وأخبرها بما حصل معي، وتوجهت إلى بيتها، فوجدتها واقفة على الباب تنتظرني، وعندما رأتني قالت لي: إنك لم تقض لي حاجتي، فقلت لها: وكيف عرفت؟، فقالت لي: إنك عندما أعطيته كتابي مزقه، ورمى به، وقال لك: مهما كانت حاجتك قضيتها لك سوى هذه، ومن ثم أكلتما وشربتما، وغنت جارية فوقع مغشيًا عليه، فقلت لها: وعل كنت معنا؟، فقالت: ألم تسمع قول الشاعر:
قلوب العاشقين لها عيون
ترى ما لا يراه الناظرون
ومن ثم قالت لي: ما تعاقب الليل والنهار على شيء إلا غيراه، ثم رفعت رأسها إلى السماء، وقالت: يا مولاي، كما بليتني بحبه، ابله بحبي، وانقل المحبة من قلبي إلى قلبه، ومن ثم أعطتني المائة دينار، وخرجت عائدًا إلى بغداد.
نبذة عن بدر بنت محمد
هي بدر بين محمد بن علي الجواهري، شاعرة من شعراء العصر العباسي.