تعتبر قصيدة “دع المكارم لا ترحل لبغيتها” من روائع الشعر العربي، وقد حظيت بشهرة واسعة واستحوذت على اهتمام النقاد والشعراء على مر العصور. هذه القصيدة، التي تحمل في طياتها حكمة عميقة وعظة بليغة، تتجاوز حدود الشعر لتصل إلى أعماق النفس البشرية، وتعبر عن أهمية السعي وراء المكارم والأهداف السامية.
ما لا تعرف عن قصة قصيدة “دع المكارم لا ترحل لبغيتها”
عرف عن الشاعر المخضرمي الحطيئة شاعر هجاء خبيث اللسان، لم يترك أحدًا يقابله إلا وهجاه، فهجا زوجته ووالده ووالدته وخاله وعمه، وأيضاً هجا نفسه.
حيث قال في هجاء والدته:
تَنَحِّي فَاجْلِسِي عَنِّي بَعِيدًا
أَرَاحَ اللَّهُ مِنْك الْعَالَمِينَا
أغربالا إذَا اُسْتُوْدِعَتْ سِرًّا
وَكَانُونَا عَلَى المتحدثينا
وقال أيضاً في والده وعمه وخاله:
لحـاك الله ثــم لـحـاك حـقـا
أبـا ولحــاك مـن عـم وخــال
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي
وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
وقال أيضاً في هجاء زوجته:
أطوّف ما أطوّفُ ثم آوي
إلى بيتٍ قَعيدته لَكاعِ
وكان الناس يتجنبونَ الحطيئة وذلك لأنه كان يهجو كل الناس ولم يسلم من شره أحد فكان من يريد اتقاء شره وقبح هجاءه وقدحه له يعطيه النقود، وكان هذا كل همه فكان يذهب إلى مجلس الأمراء وأسياد القومي فيمدحهم بأجمل القصائد حيث كان مشهورًا أيضاً بجودة شعره الذي يمدح فيه غيره من الناس، فيقوم الأمير أو السيد بإعطائه النقود مقابل ما قيل فيه، فإن لم يعطه ما كان يتوقع خرج من مجلسه وهجاه.
وفي يوم نزل الحطيئة عند قوم كان سيدهم يدعى “الزبرقان بن بدر”، وأستضيفَ في بيته وقام الزبرقان بإكرامه أفضل أكرام، وبقي عنده حتى رأى منه شيئاً لم يعجبه فغادر بيته وذهب لعند خصومه وهجاه بقصيدة قال فيها:
دع الـمكارم لا تـرحل لـبغيتها
وأقـعد فـأنت الـطاعم الكاسي
وعندما سمع “الزبرقان بن بدر” هذا البيت، تملكه غضبًا شديدًا وأحس بإن شرفه قد أهين، وعندها ذهب لعند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لكي يشكو الحطيئة.
وعند دخوله لمجلس أمير المؤمنين قص عليه ما حدث بينه وبين الحطيئة وأخبره ببيت الشعر الذي هجاءه فيه، وعندما سمع أمير المؤمنين القصيدة بعدما سمع شكوى الزبرقان، والتي قال فيها بإن الحطيئة قد هجاه وشهر به، فقام أمير المؤمنين بسؤاله وقال له: وماذا في هذه الأبيات لقد وصفك الرجل بأنك طاعم كاسي، وإني لا أرى في هذه الأبيات شيئًا من الهجاء بل أرى فيها عتابًا، فرد عليه الزبرقان وقال: يا أمير المؤمنين إنه والله قد هجاني، فما تبلغ من رجولتي ومرؤتي أن آكل وألبس فقط.
وعندما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ما عند الزبرقان من بدر من تصميم على أنه قد أهين من الحطيئة، قام باستدعاء اثنان من الصحابة الخبراء في البت في مثل هذه الأمور، وهما الصحابي حسان بن ثابت، والصحابي الشاعر لبيد بن ربيعة، وطلب من زبرقان أن يقص عليهما ما حصل له ويخبرهما بشعر الحطيئة عنه، وعندما سمعا البيت الذي قيل أكدا على أنه هجاء وأنه صريح فقال أحدهما أن الحطيئة لم يهجه بل سلح عليه، وقال الثاني: إنني سعيد لأن هذ البيت لم يقل في أنا، وعندها أمر أمير المؤمنين عمر بين الخطاب بإلقاء الحطيئة في السجن.