قصة قصيدة رسم الكرى بين الجفون محيل
أمّا عن مناسبة قصيدة “رسم الكرى بين الجفون محيل” فيروى بأن أبا نواس خرج في يوم من الأيام مع الفضل بن ربيع، وكان أبو نواس مع صاحب له، وتوجه الاثنان مع الفضل إلى فزارة، وكان ذلك في فصل الربيع، وعندما وصلا إلى هنالك دخلا إلى نزل بفنائه أرض قد اكتست باللون الأخضر، ممتلئة بالأشجار الجميلة، وبينما هما يمشيان في تلك الأرض بدأت السماء تمطر، فقال أبو نواس لصاحبه: أمض بنا إلى تلك الخيمات، لعلنا نجد من نأخذ منه خبرًا نعود به إلى بغداد، فتوجه الاثنان إلى خيمات قريبة منهما، وعندما وصلا وجدا جارية على باب أحد الخيمات، فطلبا منها ماءًا ليشربا، فرحبت بهما، وقامت وأحضرت لهما الماء، فشربا منه، فقال أبو نواس لصاحبه: تعرض لكشف وجهها، فأخذ صاحبه ينشد قائلًا:
إذا بارك الله في ملبسٍ
فلا بارك الله في البرقع
تريك عيون المها غرّةً
وتكشف عن منظرٍ أشنع
فأتت مسرعة وقد كشف البرقع ولبست خمار أسود وأنشدت تقول:
ألا حيّ ضيفي معشر قد أراهما
أضلّا ولمّا يعرفا مبتغاهما
هما استقيا ماءً على غير ظمأةٍ
ليستمتعا باللحظ ممّن سقاهما
يذمّان تلباس البراقع ضلّة
كما ذمّ تجرا سلعةً مشتراهما
فلم يتمالك أبو نواس نفسه، وأنزل رأسه صوب الأرض، فقالت له: ارفع رأسك، فرفع رأسه، ولكنه بقي حائر لا يعرف ماذا يقول، ومن ثم التفت إلى صاحبه، الذي رأى حاله، فقال له صاحبه: ما هذه الخفة لوجه، وأنت لا تعرف ما تحتها، ألم تسمع قول الشاعر؟:
على وجه مّيٍ مسحةٌ من ملاحةٍ
وتحت الثّياب العار لو كان باديا
فقالت: بئس ما قلت، بل أنا كما قال الشاعر:
منعمة حوراء يجري وشاحها
على كشح مرتج الرّوادف أهضم
خزاعيّة الأطراف كنديّة الحشا
فزاريّة العينين طائيّة الفم
ثم رفعت حجابها، فكانت شديدة الجمال، وصدم الاثنان من شدة جمالها، فقالت لهما: وهل رأيتما ما هو عار؟، فقال الاثنان: لا والله، وبينما هما ينظران إلى وجهها دقت طبول الرحيل، فانصرفا من عندها، والحسرة بادية عليهما، فأنشد أبو نواس في خبر ذلك قائلًا:
رَسمُ الكَرى بَينَ الجُفونِ مَحيلُ
عَفّى عَلَيهِ بُكاً عَلَيكِ طَويلُ
ناظِراً ما أَقلَعَت لَحَظاتُهُ
حَتّى تَشَحَّطَ بَينَهُنَّ قَتيلُ
أَحلَلتُ مِن قَلبي هَواكِ مَحَلَّةً
ما حَلَّها المَشروبُ وَالمَأكولُ
بِكَمالِ صورَتِكِ الَّتي في مِثلِها
يَتَحَيَّرُ التَشبيهُ وَالتَمثيلُ
فَوقَ القَصيرَةِ وَالطَويلَةُ فَوقَها
دونَ السَمينِ وَدونَها المَهزولُ
نبذة عن أبي نواس
هو أبو علي الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح الحكمي المذحجي، شاعر من أشهر شعراء العصر العباسي، أبوه من دمشق، وأمه من الأهواز، نشأ في البصرة، ثم انتقل إلى بغداد، وهنالك اتصل بالبرامكة، واتصل بالخليفة هارون الرشيد، والخليفة الأمين.