قصيدة - أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما

اقرأ في هذا المقال


قصة قصيدة “أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما”:

وأمّا عن مناسبة قصيدة “أجزني إذا أنشدت شعرا فإنّما” فيروى بأن أبو الطيب المتنبي استيقظ من نومه في يوم وقت الظهيرة، وقد كان يحب أن ينام في فترة الصباح، وقد قال في نفسه:

أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا
وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

وبعد أن استيقظ، وأنهى تناول طعامه، نزل من بيته ليمتطي الخيل، ويمارس الفروسية، فقد كانت رياضته المفضلة منذ كان صغيرًا، وعندما خرج من باب بيته، منعه الحرس من ذلك، وقاموا بإخباره بأنّ كافور الإخشيدي قد أمرهم بأن يمنعوه من الخروج من البيت لمدة عشرة أيام، وحينئذ عرف المتنبي حجم المؤامرة التي نسجها له الإخشيدي، وبأنّه أراد أن يقتله سرًا، في تلك اللحظة تغير لون وجهه حتى أصبح شاحبًا باهتًا، وظهرت عليه علامات الحمى، فبدأ جسمه بالتعرق، ومرض مرضًا شديدًا، فأتاه الطبيب وعاينه، وقال له: لابد من أنك تناولت شيئًا، يبدو أنّك قد تناولت شيئًا ملوثًا، وجسم أبو الطيب لا يتوقف عن التعرق، وقد قال أبو الطيب في ذلك:

مَلومُكُما يَجِلُّ عَنِ المَلامِ
وَوَقعُ فَعالِهِ فَوقَ الكَلامِ

ذَراني وَالفَلاةُ بِلا دَليلٍ
وَوَجهي وَالهَجيرَ بِلا لِثامِ

فَإِنّي أَستَريحُ بِذي وَهَذا
وَأَتعَبُ بِالإِناخَةِ وَالمُقامِ

عُيونُ رَواحِلي إِن حُرتُ عَيني
وَكُلُّ بُغامِ رازِحَةٍ بُغامي

فَقَد أَرِدُ المِياهَ بِغَيرِ هادٍ
سِوى عَدّي لَها بَرقَ الغَمامِ

يُذِمُّ لِمُهجَتي رَبّي وَسَيفي
إِذا اِحتاجَ الوَحيدُ إِلى الذِمامِ

وَلا أُمسي لِأَهلِ البُخلِ ضَيفاً
وَلَيسَ قِرىً سِوى مُخِّ النِعامِ

فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبّاً
جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ

وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ
لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ

ومن ثم إزدادت دقات قلبه وهو في بيته ممنوع من الخروج، وقد قطعت عنه جميع طرق التفاهم وقد عزموا على أن يقتلوه، وتسرب السم إلى جسمه وهزل، وأصبحت أيامه معدودة، وبعد شهر كان أبو الطيب مايزال مريضًا وفقد أكثر من نصف وزنه، ولم يكن أحد يقوى على مساعدته ولم يجرؤ أحد على مخالفة أوامر الإخشيدي.

وكان هنالك أحد الخدم وقد توسم فيه المتنبي خيرًا، فقد كان غلام طيبًا، رقّ لحال أبو الطيب، وكان يحضر له الماء والطعام، ويجفف له عرقه، فطلب منه أبو الطيب أن يحضر له قلمًا وورقة، فأحضرها له، فقام المتنبي بإملائه كلمات على أن يدونها، وكانت: من أبي الطيب المتنبي إلى الأمير سيف الدولة الحمداني، أكتب إليكم من مصر وأنا بين الحياة والموت، بسبب خيانة تعرضت لها من الإخشيدي، فإن لم تتدخل لإنقاذي فأنا والعدم سواء، سلام الله عليكم، وطلب أبو الطيب من الغلام أن يخبأ هذه الورقة في ثيابه، ويذهب فيها إلى البر شرق مصر، وأن يبحث هنالك عن رجل يدعى السيد أمين، وهو أحد أعيان مصر، وقد كان من الذين استقبلوه عندما أتى مصر في أولى زياراته.

ركب الغلام على حصانه واتجه مسرعًا نحو شرق مصر، وبحث عن السيد أمين، وعندما وجده قام بإعطائه الرسالة وأفهمه أنه يجب عليه أن يوصلها إلى سيف الدولة الحمداني، وبالفعل توجه السيد أمين من فوره إلى الشام ووصلها في غضون ثلاثة أيام، وطلب أن يقابل سيف الدولة على وجه السرعة لأمر شديد الأهمية يتعلق بأبي الطيب المتنبي، فدخل إليه وسلمه الرسالة، وعندما قرأها الأمير تغير لون وجهه، وأمر بإرسال وفد مكون من سفيرين ونخبة من رجالات الدولة مع السيد أمين إلى مصر، وكلفهم بمقابلة كافور الإخشيدي ليبلغوه بأن يفرج على وجه السرعة عن أبو الطيب المتنبي، وأرفق معهم ثلاثة أطباء.

وبعد أسبوع وصل الوفد الذي أرسله سيف الدولة الحمداني إلى قصر الإخشيدي، وطلبوا لقائه، وعندما قابلوه طلبوا منه أن يسمح لهم بإدخال الأطباء إلى أبي الطيب المتنبي، لكي يوقفوا تدهور حالته الصحية، فسمح بذلك، ومن ثم تفاوضوا معه على أن يخلي سبيله تحت أي شروط يريدها.

وبالفعل دخل الأطباء إلى أبي الطيب وخلال ساعات استطاعوا تخفيض درجة حرارته المرتفعة، وأعطوه الدواء الذي أوقف الحمى عنده، وبعد أن تعافى عاد إلى الشام، وبعدها استرد أبو الطيب صحته، وعادت نفسيته كما كانت، واطمأن قلبه إلى أنّ قلب الخليفة خاليًا إلا من حب قصائده، ولم يعد الإخشيدي سوى ماض ملوث.

وقال أبو الطيب هذه القصيدة يمدح سيف الدولة الحمداني، وقال فيها:

لِكُلِّ اِمرِئٍ مِن دَهرِهِ ما تَعَوَّدا
وَعادَتُ سَيفِ الدَولَةِ الطَعنُ في العِدا

وَأَن يُكذِبَ الإِرجافَ عَنهُ بِضِدِّهِ
وَيُمسي بِما تَنوي أَعاديهِ أَسعَدا

وَرُبَّ مُريدٍ ضَرَّهُ ضَرَّ نَفسَهُ
وَهادٍ إِلَيهِ الجَيشَ أَهدى وَما هَدى

وقال أيضًا:

أَجِزني إِذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما
بِشِعري أَتاكَ المادِحونَ مُرَدَّدا

وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني
أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى

تَرَكتُ السُرى خَلفي لِمَن قَلَّ مالُهُ
وَأَنعَلتُ أَفراسي بِنُعماكَ عَسجَدا

وَقَيَّدتُ نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّةً
وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا


شارك المقالة: