قصة قصيدة “أرى المتشاعرين غرّوا بذمي”:
أمّا عن مناسبة قصيدة “أرى المتشاعرين غروا بذمي” فيروى بأنّ أبو الطيب المتنبي خرج من الكوفة إلى بغداد، وعندما وصلها، أقام في بيت اللغوي علي بن حمزة البصري، وبينما هو في بغداد لقي وزير معز الدولة أبو محمد الحسن المهلبي، وقام بزيارته، وجلس معه مرتين، ولكنه خلال ذلك لم يقم بمدحه، على الرغم من أنه كان يريد ذلك، لكي يجد سبيلًا إلى معز الدولة، ولكنّه امتنع عن ذلك عندما سمع أنّه يتمادى في السخف والاستهتار، وبأن أهل الخدعة قد استولوا عليه، ولذلك قام المهلبي بإغراء أحد الشعراء الماجنين ويدعى ابن الحجاج، وبينما كان ابن الحجاج في السوق في يوم لقي الحجاج، وأنشده أمام الناس قائلًا:
يا شَيْخَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِينَا وَمَنْ
يَلْزَمُ أَهْلَ الْعِلْمِ تَوْقِيرُهُ
فلم يعره أبو الطيب اهتمامه، وانصرف عنه متوجهًا إلى بيته.
وقد كان أبو محمد المهلبي يرغب في أن يقوم المتنبي بمدحه، وعندما رأى إعراضه عن ذلك، وإغفاله له، اغتاظ منه وغضب عليه، وفي يوم قام أبو محمد المهلبي بإحضار علي بن يوسف البقال، وطلب منه أن ينشده في حضرة المتنبي، فأنشده، فقال أبو الطيب: لم أرى في بغداد أحدًا يجوز أن يطلق عليه اسم شاعر سوى ابن البقال.
وقد كان أبو محمد المهلبي هو سبيل أبو الطيب الوحيدة إلى معز الدولة، ولأنّه لم يقم بمدحه، فلم يجد أبو الطيب أي سبيل لكي يمدح معز الدولة.
ولم يستطع أبو محمد المهلبي أن ينسى إهمال أبو الطيب وإغفاله عنه، فقام بتسليط مجموعة من شعراء بغداد عليه، فقاموا بهجائه، والاستهتار والسخرية به، ونالوا من عرضه، وكان منهم الهاشمي، والحاتمي، وابن سكرة، وابن الحجاج، فلم يجبهم المتنبي، ولم يعرهم أي اهتمام، فسأله البعض عن سبب ذلك، فقال لهم: لقد أجبتهم بقولي فيمن هم أفضل منهم من الشعراء:
أَرى المُتَشاعِرينَ غَروا بِذَمّي
وَمَن ذا يَحمَدُ الداءَ العُضالا
وَمَن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ
يَجِد مُرّاً بِهِ الماءَ الزُلالا
وَقالوا هَل يُبَلِّغُكَ الثُرَيّا
فَقُلتُ نَعَم إِذا شِئتُ اِستِفالا
هُوَ المُفني المَذاكي وَالأَعادي
وَبيضَ الهِندِ وَالسُمرِ الطِوالا
وَقائِدُها مُسَوَّمَةً خِفافاً
عَلى حَيٍّ تُصَبِّحُهُ ثِقالا
وقولي:
أَفي كُلِّ يَومٍ تَحتَ ضِبني شُوَيعِرٌ
ضَعيفٌ يُقاويني قَصيرٌ يُطاوِلُ
لِساني بِنُطقي صامِتٌ عَنهُ عادِلٌ
وَقَلبي بِصَمتي ضاحِكٌ مِنهُ هازِلُ
وقولي:
وَإِذا أَتَتكَ مَذَمَّتي مِن ناقِصٍ
فَهِيَ الشَهادَةُ لي بِأَنِّيَ كامِلُ
مَن لي بِفَهمِ أُهَيلِ عَصرٍ يَدَّعي
أَن يَحسُبَ الهِندِيَّ فيهِم باقِلُ