قصة قصيدة ” هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله “:
أمّا عن الفرزدق فهو همام بن غالب بن صعصعة التميمي ولد في كامة عام ثمانية وثلاثون للهجرة وتوفي عام مائة وأربعة عشر للهجرة وهو شاعر من الشعراء الأمويين عاش في البصرة، وقد لقّب بالفرزدق لجهامة ووجوم في وجهه، وكان جده صعصة مشهورًا بأنّه كان يفتدي المؤودات في عصر الجاهلية، كان كريمًا، وأمّا أباه غالب فقد أتى علي بن أبي طالب في إحدى الأيام فسأله علي: ماذا فعلت إبلك الكثيرة، فرد عليه وقال: أنهتها الحقوق، وأذهبها ما نزل في الناس من ضرر، فقال له علي: ذلك أفضل سبيل لها، وكان لمكانة أبو الفرزدق وجده الأثر العميق في نفسيته، ففخر بآبائه وقومه، وتمسك بمآثرهم وكرمهم، ففي يوم ذهب إلى السوق وقام ببيع إبل له في المزاد وبعد أن قبض أموالها قام بنثر تلك الأموال على الناس في السوق، وفي يوم قام بنحر ناقة له على قبر صديقه بشر بن مروان.
وأمّا عن مناسبة قصيدة ” هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ” فقد كان الفرزدق حاد اللسان فلم يوفر في هجائه لا قريب ولا غريب، وقد أكثر من هجاء بني فقيم وذلك لأنّهم قاموا بقبول الديّة، وقال فيهم:
آبَ الوَفْدُ وَفْدُ بَنِي فُقَيْمٍ ..
بِألأمِ مَا تَؤوبُ بِهِ الوُفُودُ
أتَوْنَا بِالقُدُورِ مُعَدِّلِيهَا ..
وَصَارَ الجُدُّ للجَدِّ السَّعِيدُ
وَشَاهَدَتِ الوُفُودَ بَنُو فُقَيْمٍ ..
بِأحرَدَ إذْ تَقَسَّمَتِ الجُدودُ .؟
وعندما سمعوا ما قاله فيهم قاموا باشتكائه إلى زياد بن أبيه، وعندها طلبه، خاف الفرزدق وفرّ من العراق إلى المدينة المنورة، واستجار سعيد ابن العاص وكان والي المدينة وقتها، فأجاره، فقام الفرزدق بمدحه بقصائد كثيرة ومنها أنّه قال فيه:
تَرَى الغُرَّ الجَحَاجِحَ منْ قُرَيْشٍ ..
إذَا مَا الأمرُ في الحَدَثَانِ غَالا
قِيَاماً يَنْظُرُونَ إلى سَعِيدٍ ..
كَأنَّهُمُ يَرونَ بِهِ هِلَالَا .؟
وبينما هو ينشد هذه القصيدة سمعه الحطيئة وقال إنّ هذا هو الشعر والله، إنّ هذا ما يجب أن نسمعه منذ اليوم، وصعب على الفرزدق هروبه من زياد وخوفه وقال:
فَلَأنتَ أهوَن مِنْ زِيَادٍ جَانِبَاً ..
أذهَبْ إليْكَ مُخرِّمَ الأسْفَارِ .!
وعندما سمع زياد بشعره رقّ لحاله وقال: لو أنّه أتاني لآمنته وأعطيته ما أراد، فقال الفرزدق:
دَعَاني زِيَـادٌ لِلْعَطَاءِ وَلَـمْ أَكُـنْ ..
لِآتِيَهُ مَا سَاقَ ذُو حَسَبٍ وَفْـرَا
وبينما هو في المدينة انغمس في اللهو، حتى أصبح مروان بن الحكم واليًا على المدينة المنورة، وكان مروان شديدًا على من يلهون فترك المدينة وتوجه إلى مكة المكرمة، وبقي فيها حتى توفي زياد بن أبيه فعاد إلى البصرة.
وبقي في البصرة حتى قرّر الانتقال إلى دمشق، فاتجه نحوها وأقام فيها، وأصبح من جليسي الخليفة هشام بن عبد الملك، وفي سنة قرر الخليفة الذهاب إلى الحج، فخرج هو وحاشيته ومن بينهم كان الشاعر الفرزدق، وكان عدد الحجاج كبيرًا في تلك السنة فكان البيت الحرام مكتظًا بالحجاج، ولم يستطع هشام بن عبد الملك الطواف، فجلب له خدمه كرسيًا جلس عليه ينتظر، وبينما هو ينتظر قدم الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ” زين العابدين“، فقام الحجاج بشق الطريق له حتى وصل إلى الحجر الأسود، فغضب هشام بن عبد الملك لما رآه، وأغاظه ما فعله الحجيج، وسأل: من هذا الذي فعل له الحجاج ما فعلوا؟ فردّ عليه الفرزدق بواحدة من أروع ما قال من قصائد، وقال:
هَـذا الَّذي تَعرِفُ البَطحَاءُ وَطأَتَـهُ ..
وَالبَيْتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هَذا اِبنُ خَيرِ عِبَـادِ اللَّـهِ كُلِّهِـمُ ..
هَذا التَقِيُّ النَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ
هَذا ابْـنُ فَاطِمَةٍ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَـهُ ..
بِجَدِّهِ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ قَد خُتِموا
وَلَيْسَ قَوْلُكَ مَنْ هَـذا بِضَائِـرِهِ ..
العُربُ تَعرِفُ مَنْ أَنْكَرتَ وَالعَجَمُ
كِـلْتَـا يَدَيْـهِ غِيَاثٌ عَـمَّ نَفعُهُمَـا ..
يُسْتَوْكَفَانِ وَلا يَعروهُما عَدَمُ
سَهلُ الخَليقَةِ لا تُخشَىٰ بَوادِرُهُ ..
يَزينُهُ اثنانِ : حُسْنُ الخَلْقِ ، وَالشِّيَمُ
حَمَّالُ أَثْقَالِ أَقوَامٍ إِذا افْتُدِحوا ..
حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحلُو عِنْدَهُ : نَعَمُ .!
مَا قَالَ : لَا .! قَطُّ إِلَّا في : تَشَهُّدِهِ ..
لَوْلَا التَّشَهُّدُ .. كانَتْ لَاءَهُ نَعَمُ .!
عَـمَّ البَرِيَّـةَ بِالإِحسَانِ فَانْقَشَعَتْ ..
عَنهَا الغَيَاهِبُ وَالإِملَاقُ وَالعَدَمُ
إِذَا رَأَتْـهُ قُرَيْشٌ قَـالَ قَائِلُهَـا : ..
إِلىٰ مَكَارِمِ هَذا يَنتَهي الكَرَمُ .؟
يُغْضِي حَيَـاءً وَيُغْضَىٰ مِنْ مَهَـابَتِـهِ ..
فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا .. حِينَ يَبْتَسِمُ .!
بِكَفِّـهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُـهُ عَبِـقٌ ..
مِنْ كَـفِّ أَروَعَ في عِرنِينِهِ شَمَمُ
يَكَـادُ يُمْسِكُـهُ عِرفَـانُ رَاحَتِـهِ ..
رُكْنُ الحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
اللَّـهُ شَرَّفَـهُ قِدمَـاً .. وَعَظَّمَـهُ ..
جَرَىٰ بِذَاكَ لَـهُ في لَوْحِهِ القَلَمُ .؟!