قصة قصيدة “وكيف صبر النفس عن غادة”:
أمّا عن مناسبة قصيدة “وكيف صبر النفس عن غادة” فيروى بأنّه في يوم كان الحسن بن محمد بن طالوت في مجلس محمد بن عبدالله بن طاهر، وبينما هم جالسان قال محمد: إنّنا نحتاج إلى أن يكون معنا ثالث يؤنسنا بمجالسته، ونتلذّذ بمجاورته، فمن عساه يكون يا ترى؟، فقال له ابن طالوت: لقد أتى على بالي رجل ليس علينا في منادمته ثقل، خفيف الظل إذا جالسته، سريع الاستجابة إذا طلبته، فقال له محمد: ومن هو؟، فقال له ابن طالوت: ماني الموسوس، فقال له محمد: والله إنّك لم تسيء الاختيار.
فقام محمد بن عبدالله وطلب صاحب الشرطة، وأمره بأن يحضر له ماني الموسوس، فبعث صاحب الشرطة رجاله في طلب ماني حتى أدركوه في كوخ على أطراف المدينة بغداد، فأمسكوا به واقتادوه إلى صاحب الشرطة، الذي أرسله بدوره إلى محمد بن عبدالله، وقبل أن يدخل مجلس محمد، تم تنظيفه وقص شعره، وإلباسه ملابسًا نظيفة، ومن ثم أدخلوه إلى مجلس محمد، وعندما دخل ماني، ومثل بين يدي محمد سلّمَ، فرد عليه محمد السلام، وقال له: ألم يحن الوقت لك بأن تزورنا؟، فوالله إنّنا مشتاقون إليك، فقال له ماني: أعزك الله أيها الأمير، إنّ شوقي شديد، وودك عتيد، وحجابك صعب، وبوابك فظ، فلو سهل علينا الإذن لسهلت علينا زيارتك، فقال له محمد: لقد لطفت في الاستئذان، ومن ثم أمره بالجلوس فجلس، وكان الماني قد أطعم قبل أن يدخل إلى المجلس.
وبعد أن جلس ماني الموسوس، أمر محمد بن عبدالله بإحضار جارية له وهي إحدى بنات المهدي اسمها منوسة، كان يحب أن يسمع منها الشعر، وكانت تكثر من الجلوس معه في مجلسه، فأتوا بها وأدخلوها إليه، فدخلت، وقال لها محمد: أنشدينا بعضًا من الشعر، فأنشدت قائلة:
ولست بناس إذا غدوا فتحملوا
دموعي على الخدين من شدة الوجد
وقولي وقد زالت بعيني حمولـهـم
بواكر تحدى لا يكن آخر العـهـد
فقال ماني الموسوس: أتأذن لي أيّها الأمير؟، فقال له محمد: بماذا؟، فقال له ماني: في الإعجاب بما قد سمعت، فقال له محمد: أذنت لك، فقال ماني للجارية: أحسنت والله في ما قلت، فإن أردتي أن تزيدي بيتين مع هذا الشعر، وأنشدها قائلًا:
وقمت أداري الدمع والقلب حـائر
بمقلة موقوف على الضر والجهد
ولم يعدني هذا الأمير بعدله
على ظالم قد لج في الهجر والصد
فقال له محمد بن عبدالله: وما هو الشيء الذي استعديت منه؟، فاستحى ماني، وقال له: والله إنّي لم استح من ظلم أيّها الأمير، ولكن الطّرب حرك في حنينًا كان نائمًا، وظهر، ومن ثم أنشدت منوسة قائلة:
حجبوها عن الـرياح لأنّـي
قلت: يا ريح بلغيها السلامـا
لو رضوا بالحجاب هان ولكن
منعوها يوم الرياح الكلامـا
فطرب محمد بن عبدالله بما سمع، وقال ماني: والله لو أنّ قائل هذين البيتين زادهما بهذين:
فتنفست ثم قلت لطـيفـي:
ويك إن زرت طيفها إلماما
حيها بالـسـلام سـراً وإلا
منعوها لشقوتي أن تنامـا
فقال له محمد: أحسنت، ثم أنشدت المنوسة قائلة:
يا خليلي ساعة لا تـريمـا
وعلى ذي صبابة فأقـيمـا
ما مررنا بصر زينـب إلا
فضح الدمع سرك المكتوما
فقال ماني الموسوس: والله لولا خوفي منك أيها الأمير: لزدت على ما قالت بيتين لا يسمعهما أحد إلّا استحسنهما، فقال له محمد: الرغبة في سماع ما تقول يجب أن تحول بينك وبين الخوف، فأسمعني ما عندك، فأنشد ماني قائلًا:
ظبية كالهلال لو تلحظ الص
خر بطرف لغادرته هشيما
وإذا ما تبسمت خلت مـا ي
بدو من الثغر لؤلؤاً منظوما
فقال له محمد بن عبدالله: والله إن أحسن الشعر لهو الشعر الذي أسمعه من منوسة وهي تتغنى به، فإن كسيت شعرك بألحانها كما غنت طاب شعرك، فقال له ماني لك ذلك أيها الأمير، فقال له ابن طالوت: يا ماني، كيف رأيت منوسة في جمالها وحسنها وأدبها وشعرها؟، فقال له ماني: والله إنها غاية ينتهي إليها الوصف، ووقف وأنشد قائلًا:
وكيف صبر النفس عن غادة
تظلمها إن قلت طاووسـه
وجرت إن شبهتـهـا بـانة
في جنة الفردوس مغروسه
وغير عدل إن عدلنا بـهـا
لؤلؤة في البحر منفوسـه
جلت عن الوصف فما فكرة
تلحقها بالنعت محـسـوس
فقال له ابن طالوت: إنّي أشكرك يا ماني، فساعدك زمانك، وعطف عليك أليفك، ونلت ما تبغاه، وفارقت ما تكره، والله يديم لنا اجتماعنا معك، فيطيب بذلك يومنا، فأنشد ماني قائلًا:
مدمن التخفيف موصول
ومطيل اللبث مملـول
ثم قال لهم: أستودعكم السلامة، وانصرف من المجلس، فأمر له محمد بالهدايا، وبقي يطلبه إذا أراد أن يسمع شعره، فيبره ويصله، ويقيم عنده.