العصا من العصية ولا تلد الحية إلا حية

اقرأ في هذا المقال


كلّ شعب من الشعوب التي تعاقبت الحياة على وجه البسيطة، قد امتلك الموروث الثقافيّ الذي يخصه، وكما إنه يجعله يتفرّد به عن غيرها، وهو بدوره يعبّر عن الكثير من الوقائع والمناسبات، التي حصلت خلال التاريخ، ولعل من أكثر أنواع التراث شهرة “الأمثال الشعبية” والحكم، ويقوم الناس باستخدام هذه الأمثال أو الحكم إذا مرّوا بظرف أو حدث مشابه للحدث الأصلي الذي قيلت فيه تلك الأمثال، فيعبرون عنه بمثل أو حكمة، وهكذا تبقى محفوظة، ويتداولها الناس جيلًا بعد جيل مع إضافة ما استجد من أمثال تعبر عن أحداث الحاضر، والمثل الذي بين أيدينا هو: “العصا من العُصيّة، ولا تلد الحيّة إلا حيّة”.

فيم يضرب مثل: “إن العصا من العصية”:

يُضرب مثل: العصا من العُصيّة، ولا تلد الحيّة إلا حيّة”، إذا أُريد أنّ الأمر الكبير يحدث ويأتي من الأمر الصغير، والبعض يقول العُصيَّة من العصا إذا أريد القول أن الشيء الكبير أو الجليل يكون في بدايته يكون صغيرًا ، كما قالوا أن القرم من الأفيل، فيحوز وقتها على هذا المعنى أن يقال العصا من العُصيّة، أن الشيء الكبير يأتي من الشيء الصغير.

قصة مثل: “العصا من العصية ولا تلد الحية إلا حية”:

قيل إنّ أوّل من قال هذا المثل: “العصا من العُصيّة، ولا تلد الحيّةَ إلا حيّة”، هو الأفعى الجراهميّ، وذلك أن نزارًا حين حضرته الوفاة جمع بنيه: “مضر وإيادًا وربيعة وأنمار”، وقال: يا بنيّ، هذه القبة الحمراء لمضر، وهذا الفرس الأدهم والخباء الأسود لربيعة، وهذه الخادمة وكانت شمطاد لإياد، وهذه البدرة والمجلس لأنمار، يجلس فيه، فإن أشكل عليكم كيف تقتسمون فائتوا الأفعى الجرهميّ، ومنزله بنجران.

تشاجر الأبناء الأربعة في الميراث، فما كان منهم إلا أن توجهوا إلى الأفعى الجرهميّ، فبينما هم في مسيرهم إليه إذ رأى مضر أثر عشب قد رُعي، فقال: إن الذي رعى هذا لأعور، وقال ربيعة: إنه لأزور، وقال إياد: إنه لأبتر، وقال أنمار: إنه لشرود، فساروا قليلًا، فإذا برجل ينشد جمله، فسألهم عن البعير، فقال مضر: أهو أعور؟ قال: نعم، وقال ربيعة: أهو أزور؟ فقال: نعم، وقال إياد: أهو أبتر؟ فقال: نعم، وقال أنمار: أهو شرود؟ فقال: نعم، وهذه والله صفة بعيري، فدلوني عليه، فقالوا: والله ما رأيناه، قال: هذا والله الكذب، وقال كيف أصدقكم وأنت تصفون بعيري؟

قرّر الإخوة المسير مع صاحب البعير إلى أرض نجران، فما إن نزلوا، قال صاحب البعير: إن هؤلاء قد أخذوا بعيري، وقد وصفوه لي، ثم قالوا: لم نشاهده فاشتكوا إلى الأفعى، فقال: كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال مضر: إنّي رأيته قد رعى جانبًا، وترك جانبًا فقلت: إنه أعور، وقال ربيعة: قد رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر، والأخرى فأسدته فقلت أزور، وقال إياد عرفت أنه ابتر باجتماع بعره ولو كان له ذيل لمصع به، وقال أنمار: عرفت أنه شرود؛ لأنه كان يرعى في المكان الملتف نبته فعلمت أنه شرود.

قال الأفعى الجراهميّ: هم ليسوا أصحاب بعيرك، فسألهم: من أنتم؟ فأخبروه بالذي أتى بهم إليه، فأنزلهم، وأكرمهم، وذبح لهم شاه، وأتاهم بخمر، وجلس لهم الأفعى حيث لا يُرى وهو يسمع كلامهم، فقال الربيعة: لم أرَ كاليوم لحمًا أطيب منه لولا أن شاته غذيت بلبن كلبة، وقال مضر: لم أرَ أطيب خمرًا منه لولا أن حبلتها نبتت على قبر، وقال إيّاد: لم أرَ كاليوم رجلًا أسرى منه، لولا أنه ليس لأبيه الذي يدعي له، وقال أنمار: لم أرَ اليوم كلامًا أنفع في حاجتنا من كلامنا بإذنه، فقال الأفعى: ما هؤلاء إلا شياطين، ثمّ قال: ما هذه الخمر وما أمرها، فقال: هي حبلة غرستها على قبر أبيك، ولم يكن عندنا شراب أطيب من شرابها، وقال للراعي: وما أمر الشاه؟ فقال: هي عناق أرضعتها بلبن كلبة؛ لأن أمها ماتت، ولم يكن في الغنم شاة ولدت غيرها، ثم أتى أمه فسألها عن أبيه، فأخبرته أنها كانت تحت ملك كثير المال، وكان لا يولد له، قالت: فخفت أن يموت ولا ولد له؛ فيذهب الملك فأمكنت نفسي لابن عمه.

خرج الأفعى على الإخوة الأربعة، فقصّوا عليه حكايتهم، وحدثوه بوصية أبيهم، فقال: أمّا القبة الحمراء، فقد قصد المال، وهو لمضر، والإبل الحمر وصاحب الفرس الأدهم والخباء الأسود، كله لربيعة فله كل شيء أسود، وأمّا الخادم الشمطاء لإياد، والمقصود بها الماشية البلق من الحبلق، وقضى لأنمار بالدراهم، فانصرفوا من عنده على ذلك، فقال: “إن العصا من العصية، ولا تلد الحية إلا حية”، أي إنهم يشبهون أباهم في جودة الرأي.


شارك المقالة: