كل سر جاوز الاثنين شاع

اقرأ في هذا المقال


لجميع الأمم التي رسمت خطاها على البسيطة الإرث الثقافيّ الخاص، والذي يجعلها تتفرد به عن غيرها، وهو بدوره يعبّر عن الكثير من الوقائع والمناسبات، التي حصلت خلال التاريخ، ولعل من أكثر أنواع التراث شهرة “الأمثال الشعبية” والحكم، ويقوم الناس باستخدام هذه الأمثال أو الحكم إذا مرّوا بظرف أو حدث مشابه للحدث الأصلي الذي قيلت فيه تلك الأمثال، فيعبرون عنه بمثل أو حكمة، وهكذا تبقى محفوظة، ويتداولها الناس جيلًا بعد جيل مع إضافة ما استجد من أمثال تعبر عن أحداث الحاضر، وفيما يلي سيتم ذكر قصة المثل العربي الشهير، هو: “كلّ سرّ جاوز الاثنين شاع”.

قصة مثل: “كل سر جاوز الاثنين شاع”:

قيل في قديم الزمان: إن أمناء الأسرار أندر وجودًا من أمناء الأموال، وحفظ الأموال أبسط من كتمان الأسرار؛ وذلك لأن أحراز الأموال منيعة بالأبواب والأقفال، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق، ولعل من عجائب الأمور أن الأموال كلما كثرت خزانها كان أوثق لها، أما الأسرار فكلما كثرت خزانها كان أضيع لها.

أمّا قصة مثل: “كلّ سرّ جاوز الاثنين شاع”، فيُروى أن رجلًا قد رغب في أن يمتحن ولاء أحد أصدقائه له، ليعلم ما إذا كان سيحضر لنجدته إذا ما دعت الضرورة أم لا، فأرسل خادمه، بعد منتصف إحدى الليالي إلى صديقه يطلب إليه أن يحضر لأمر خطير، فحضر هذا في الحال، فتصنع الرجل، وقال: “كنت نائمًا حينما سمعت وقع أقدام قرب الباب، فتناولت خنجري من تحت وسادتي وتربصت، وإذا برجل يقترب وبيده مسدس، فعاجلته بطعنة قاتلة، وقد دعوتك الآن لتساعدني في إخفاء جثته، فقال الصديق: “وهل علم خادمك هذا بما حدث؟”، قال الرجل:” نعم!”،فانتضى الصديق مديته، وطعن الخادم فأراده قتيلًا، فصاح الرجل:” ويللك! وما هو ذنب الخادم قتلته؟”، قال الصديق: “قتلت الخادم لكي يبقى السر بيني و بينك، لأن “كلّ سرّ جاوز الاثنين شاع”، وهكذا جرى جواب الرجل مثلًا يتداوله الناس إلى يومنا هذا.

بعض أقوال العرب في حفظ السر:

أورد المبرد في كتابه “الكامل في اللغة والأدب” عبارات جميلة عن حفظ السر، قال فيها: قال عمرو بن العاص: “إذا أنا أفشيت سري إلى صديقي فأذاعه فهو في حلّ”، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال أنا كنت أحق بصيانته، وقال أمرؤ القيس: “إذا المرء لم يخزن عليه لسانه، فليس على شيء سواه بخزان”، وأحسن ما سمع في هذا ما يُنسب إلى على بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يكثر إنشاده: “فلا تفش سرك إلا إليك فـإن لكل نصيح نصيحا وإني رأيت غواة الرجــا ل لا يتــركون أديما صحيحا”،وما أحسن ما قال الشاعر:

“أجود بمكنون التـلاد وإنني        بسري عمَّن سألني لضنين

وإن ضيَّع الأقوام سري فإنني       كتوم لأسرار العشير أمين”.

العبرة من مثل “كل سرّ جاوز الاثنين شاع”:

مما لا شك فيه أن البوح بالسرّ من أكثر أنواع الخيانة التي قد يتعرض إليها الفرد، حيث إن الناس يخالط بعضهم بعضًا، ويفضي بعضهم إلى بعض بما قد يكون سرًا، كما أن من أشهر صور الخيانة أن يُستأمن المرء على سر فينقله وينشره، ولو إلى واحد فقط من الناس، فعن جابر رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ” إذا حدّث الرجل بالحديث ثمّ التفت فهي أمانة”، ولأن الكرام ينأون بأنفسهم عن أخلاق اللئام، فقد رأينا هؤلاء الكرام يربون أبناءهم على حفظ الأسرار وعدم إشاعتها، فها هي أم أنس بن مالك- رضي الله عنها- يتأخر عليها ولدها أنس فتسأله: “ما حبسك؟ قال: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم في حاجة، فقالت: ما حاجته؟ قال: إنها سرّ، قالت: لا تحدّثنّ أحدًا بسرّ رسول الله- صلى الله عليه وسلّم.

في يوم من الأيام أسرّ معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- إلى الوليد بن عتبة بحديث، فقال الوليد لأبيه: يا أبتاه، إن أمير المؤمنين معاوية قد أسرّ إليّ بحديث، وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك، قال: فلا تحدثني به، فإن من كتم سرّه كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، قال الوليد: يا أبتي، وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين أبيه؟ قال: لا والله يا بني، ولكن لا أحب أن تُذلّل لسانك بأحاديث السر، قال الوليد: فأتيت معاوية- رضي الله عنه- فأخبرته، فقال: يا وليد أعتقك أخي من رقّ الخطأ.


شارك المقالة: