لا تأمن للملوك ولو توجوك

اقرأ في هذا المقال


جميع الشعوب التي تعاقبت الحياة على وجه البسيطة، امتلكت الموروث الثقافيّ الذي يخصها، وكما إنه يجعلها تتفرد به عن غيرها، وهو بدوره يعبّر عن الكثير من الوقائع والمناسبات، التي حصلت خلال التاريخ، ولعل من أكثر أنواع التراث شهرة “الأمثال الشعبية” والحكم، ويقوم الناس باستخدام هذه الأمثال أو الحكم إذا مرّوا بظرف أو حدث مشابه للحدث الأصلي الذي قيلت فيه تلك الأمثال، فيعبرون عنه بمثل أو حكمة، وهكذا تبقى محفوظة، ويتداولها الناس جيلًا بعد جيل مع إضافة ما استجد من أمثال تعبر عن أحداث الحاضر، والمثل الذي بين أيدينا هو: “لا تأمن الملوك، وإن توّجوك”.

قصة مثل: “لا تأمن للملوك ولو توجوك”:

أما قصة مثل: “لا تأمن الملوك وإن تّجوك”، فيُحكى أن واحدًا من الملوك قد خرج في أحد الأيام مع وزيره وكانا متنكرين، وهما يتجولان في المدينة؛ ليتفقدوا أحوال الرعية، فقادتهم خطاهم إلى بيت في ظاهر المدينة، فاتجها نحوه، ولما قرعا الباب، خرج لهما رجل مُسنّ، ودعاهما إلى ضيافته، فأكرمهما وقبل أن يغادره، قال له الملك: لقد وجدنا عندك الحكمة والوقار، فنرجو أن تزوّدنا بنصيحة.

عندئذ قال الرجل المُسنّ: “لا تأمن الملوك وإن توّجوك”، فقام الملك بإعطائه المال الكثير، ثم طلب إليه نصيحة أخرى، فقال الرّجل المُسنّ: “لا تأمن النساء ولو عبدنك”، فأعطاه الملك في الثانية، ثم طلب إليه نصيحة ثالثة، فقال الرّجل المُسنّ: “أهلك هم أهلك، ولو صرت على المهلك”، فأعطاه الملك للمرة الثالثة، ثم خرج هو ووزيره.

في طريق عودة الملك ووزيره إلى القصر، أظهر الملك استياءه من كلام الرّجل المُسنّ، وأنكر كل تلك الحكم، وأخذ يهزأ منها، حينها رغب الوزير أن يؤكد للملك صحة ما قاله الرّجل المُسنّ، فنزل إلى حديقة القصر، وسرق بلبلًا كان الملك يحبه كثيرًا، ثمّ أسرع إلى زوجته يطلب منها أن تخبّئ البلبل عندها، وألّا تخبر به أحدًا، وبعد عدة أيام طلب الوزير من زوجته أن تعطيه العقد الذي في عنقها؛ كي يضيف إليه بضع حبات كبيرة من اللؤلؤ، فسرّت بذلك، وأعطته العقد، ومرت الأيام ولم يُعد الوزير إلى زوجته العقد، فسألته عنه، غير أنه تشاغل عنها، ولم يجبها.

ثار غضب زوجة الوزير، لدرجة إنّها اتهمته بأنّه قدّم عقدها هدية لامرأة أخرى، غير أنه التزم الصمت، ولم يجب بشيء، الأمر الذي زاد في نقمتها، فما كان منها إلا أن أسرعت إلى الملك، لتعطيه البلبل، وتخبره بأن زوجها هو الذي قام بسرقته، فغضب الملك غضبًا شديداً، وأصدر أمره بإعدام الوزير، وبالفعل نُصبت في وسط المدينة منصة الإعدام، وسيق الوزير مكبّلًا بالأغلال، إلى حيث سيشهد الملك إعدام وزيره.

في أثناء رحلة الوزير إلى منصة الإعدام، مرّ الوزير بمنزل أبيه وإخوته، فاستغربوا ممّا رأوا، وما كان من والده إلا أعلن والده عن أنه يريد افتداء ابنه بكل ما يملك من أموال، بل أكد أمام الملك أنه مستعد ليفديه بنفسه، غير أنّ الملك أصرّ على تنفيذ الحكم بالوزير، وقبل أن يرفع الجلّاد سيفه، طلب أن يؤذن له بكلمة يقولها للملك، فأذن له، فأخرج العقد من جيبه، وقال للملك، ألا تتذكر قول الحكيم:‏ “لا تأمن للملوك ولو توّجوك، ولا للنساء ولو عبدنك، وأهلك هم أهلك ولو صرت على المهلك”، وعندئذ أدرك الملك أن الوزير قد فعل ما فعل؛ ليؤكد له صدق تلك الحكم، فعفا عنه، وأعاده إلى مملكته وزيرًا مقربًا”، وصارت مقولات الشّيخ المُسنّ الثلاث أمثالًا يرددها الناس إلى يومنا هذا.

مثل: “لا تأمن للملوك ولو توجوك” في أقوال الأدباء والشعراء:

قال أحدهم “إذا رغب المرء في أن ينجح في حياته فليجعل المثابرة صديقه الحميم، والتجربة مستشاره الحكيم، والحذر أخاه الأكبر، و الرجاء عبقريته الحارسة”، فالحذر من الأشخاص والأشياء المحبّبة يراها الكثيرون أمرًا واجبًا، ويرى آخرون أن من الفنّ والإبداع أن يكون الإنسان مرة شجاعًا، وفي مرات أخرى حذرًا، فهذا هو فنّ النّجاح، حيث يجب أن نتذكر قولاً للقمان الحكيم، وهو: “احذر الكريم إذا أهنته، واللئيم إذا أكرمته، والأرعن إذا مازحته، والسافل إذا عاشرته”، وهذا يوافق قول الشاعر الكبير المتنبي، والذي ابتلي بالوشاة والحسّاد ولم يأخذ جانب الحذر منهم؛ فشوهوا صورته أمام سيف الدولة، فما كان من سيف الدولة إلا أن جفاه وأبعده، وبيت شعره يقول:

“إذا أنت أكرمت الكريم ملكته    وإذا أكرمت اللئيم تمرّدا”.


شارك المقالة: