مفهوم علم الوراثة الجزيئي:
قدم علم الوراثة الجزيئية دراسة بنية ووظيفة الجينات على المستوى الجزيئي، حيث قدمت البيانات التي جمعها العلماء في أوائل القرن العشرين أدلة دامغة على أن الكروموسومات هي ناقلات الجينات، لكن طبيعة الجينات نفسها بقيت لغزا كما فعلت الآلية التي من خلالها تمارس تأثيرها.
الحمض النووي كعامل للوراثة:
في عام 1869 استخرج الكيميائي السويسري يوهان فريدريش ميشر مادة تحتوي على النيتروجين والفوسفور من نواة الخلية، إذ كانت المادة تسمى في الأصل nuclein لكنها تُعرف الآن باسم حمض (deoxyribonucleic) أو (DNA)، حيث أن الحمض النووي هو المكون الكيميائي للكروموسومات المسؤول بشكل رئيسي عن خصائص تلطيخها في المستحضرات المجهرية.
نظرًا لأن كروموسومات حقيقيات النوى تحتوي على مجموعة متنوعة من البروتينات بالإضافة إلى الحمض النووي، فقد نشأ السؤال بشكل طبيعي عما إذا كانت الأحماض النووية أو البروتينات أو كلاهما معًا، هم الناقلون للمعلومات الجينية، حتى أوائل الخمسينيات من القرن الماضي كان معظم علماء الأحياء يميلون إلى الاعتقاد بأن البروتينات هي الناقل الرئيسي للوراثة، وتحتوي الأحماض النووية على أربع وحدات بناء أحادية مختلفة فقط، لكن البروتينات تتكون من 20 نوعًا من الأحماض الأمينية المختلفة، لذلك يبدو أن البروتينات تتمتع بتنوع أكبر في التركيب ويبدو أن تنوع الجينات في البداية من المرجح أن يعتمد على تنوع البروتينات.
تم إثبات الدليل على أن الحمض النووي يعمل كحامل للمعلومات الجينية لأول مرة بشكل صارم من خلال دراسات ميكروبيولوجية بسيطة للغاية، في عام 1928 كان عالم البكتيريا الإنجليزي فريدريك جريفيث يدرس سلالتين من البكتيريا العقدية الرئوية، وكانت إحدى السلالات قاتلة للفئران (خبيثة) والأخرى غير ضارة (عديمة الفوعة)، حيث وجد جريفيث أن الفئران التي تم تلقيحها إما بالبكتيريا الضارة المميتة للحرارة أو البكتيريا الحية العديمة الفوعة ظلت خالية من العدوى، لكن الفئران التي تم تلقيحها بمزيج من الاثنين أصيبت بالعدوى وماتت.
بدا الأمر كما لو أن بعض “مبدأ التحويل” الكيميائي قد انتقل من الخلايا الخبيثة الميتة إلى الخلايا العديمة الفوعة وقام بتغييرها، وفي عام 1944 وجد عالم البكتيريا الأمريكي أوزوالد تي أفيري وزملاؤه أن العامل المحول هو الحمض النووي، إذ حصل أفيري وفريقه البحثي على مخاليط من بكتيريا مميتة بالحرارة وعطلوا إما البروتينات أو السكريات (وحدات السكر الفرعية) أو الدهون أو الحمض النووي أو الحمض النووي الريبي (حمض الريبونوكليك، وهو مادة كيميائية قريبة من الحمض النووي) وأضافوا كل نوع من المستحضر بشكل فردي إلى خلايا عديمة الفوعة، والطبقة الجزيئية الوحيدة التي منع تثبيطها من التحول إلى الفوعة هي الحمض النووي لذلك بدا أن الحمض النووي، لأنه يمكن أن يتحول يجب أن يكون المادة الوراثية.
تم التوصل إلى استنتاج مماثل من دراسة العاثيات، الفيروسات التي تهاجم وتقتل الخلايا البكتيرية من خلية مضيفة مصابة بعاثمة واحدة، حيث يتم إنتاج مئات من ذرية العاثية، وفي عام 1952 أعد عالما الأحياء الأمريكيان ألفريد د. هيرشي ومارثا تشيس مجموعتين من جسيمات العاثيات، وفي مجتمع واحد تم تمييز الغلاف البروتيني الخارجي للعاثمة بنظير مشع، في الآخر تم تصنيف الحمض النووي.
بعد السماح لكلا المجموعتين بمهاجمة البكتيريا وجد هيرشي وتشيس أنه فقط عندما تم تصنيف الحمض النووي، احتوت العاثية النسل على نشاط إشعاعي لذلك، خلصوا إلى أن الحمض النووي يُحقن في الخلية البكتيرية، حيث يوجه تكوين العديد من العاثيات الكاملة على حساب المضيف وبعبارة أخرى، فإن الحمض النووي في عاثيات البكتيريا هو المادة الوراثية المسؤولة عن الخصائص الأساسية للفيروس.
هيكل وتكوين الحمض النووي:
استحوذت الخصائص الرائعة للأحماض النووية التي تؤهل هذه المواد لتكون بمثابة ناقلات للمعلومات الجينية، على اهتمام العديد من الباحثين، حيث تم وضع الأساس من قبل علماء الكيمياء الحيوية الرواد الذين وجدوا أن الأحماض النووية عبارة عن جزيئات طويلة السلسلة إذ يتكون العمود الفقري منها من سلاسل متكررة من روابط الفوسفات والسكر – سكر الريبوز في الحمض النووي الريبي وسكر الديوكسيريبوز في الحمض النووي.
الأحماض النووية المستخرجة من أنواع مختلفة من الحيوانات والنباتات لها نسب مختلفة من النيوكليوتيدات الأربعة، وبعضها أغنى نسبيًا بالأدينين والثيمين بينما يحتوي البعض الآخر على المزيد من الجوانين والسيتوزين ومع ذلك، وجد عالم الكيمياء الحيوية (Erwin Chargaff) أن كمية A تساوي دائمًا T، وأن كمية G تساوي دائمًا C.
مع القبول العام للحمض النووي كأساس كيميائي للوراثة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي حوّل العديد من العلماء انتباههم إلى تحديد كيفية توافق القواعد النيتروجينية معًا لتشكيل جزيء يشبه الخيط، حيث تم تحديد بنية الحمض النووي بواسطة عالم الوراثة الأمريكي جيمس واتسون وعالم الفيزياء الحيوية البريطاني فرانسيس كريك في عام 1953، واستند واتسون وكريك في نموذجهما إلى حد كبير على أبحاث الفيزيائيين البريطانيين روزاليند فرانكلين وموريس ويلكنز، اللذان حللا أنماط حيود الأشعة السينية لإظهار أن الحمض النووي حلزون مزدوج، وأشارت نتائج (Chargaff) إلى (Watson and Crick) أن الأدينين تم إقرانه بطريقة ما مع الثايمين وأن الجوانين كان مقترنًا بالسيتوزين.
باستخدام هذه المعلومات توصل واطسون وكريك إلى نموذجهما المشهور الآن الذي يُظهر الحمض النووي على شكل حلزون مزدوج يتكون من سلسلتين متشابكتين من النيوكليوتيدات، حيث ترتبط الأدينينات في إحدى السلاسل بثيمينات الأخرى والجوانين في واحدة، والسلسلة مرتبطة بالسيتوزينات الأخرى، حيث يشبه الهيكل سلمًا تم لفه إلى شكل حلزون، إذ تتكون جوانب السلم من مجموعات السكر والفوسفات وتتكون الدرجات من القواعد النيتروجينية المزدوجة.
من خلال صنع نموذج سلكي للهيكل أصبح من الواضح أن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للنموذج أن يتوافق مع متطلبات الأبعاد الجزيئية للحمض النووي هي إذا كان A يقترن دائمًا بـ T و G مع C في الواقع، أظهر أزواج A-T و G-C ملاءمة مُرضية للقفل والمفتاح، وعلى الرغم من أن معظم الروابط في الحمض النووي عبارة عن روابط تساهمية قوية إلا أن روابط A-T و G-C عبارة عن روابط هيدروجينية ضعيفة ومع ذلك، فإن الروابط الهيدروجينية المتعددة على طول مركز الجزيء تمنح ثباتًا كافيًا لتثبيت الخيوط معًا.
كانت خيوط الحلزون المزدوج لـ(Watson) و (Crick) متضادتين أي تم ترتيب النيوكليوتيدات في اتجاه معاكس، إذ يمكن تصور ذلك إذا تم تخيل الشكل L للنيوكليوتيد على أنه جورب: عنق الجورب هو القاعدة النيتروجينية، وإصبع القدم هو مجموعة الفوسفات والكعب هو مجموعة السكر، وستكون سلسلة النيوكليوتيدات بعد ذلك عبارة عن سلسلة من الجوارب متصلة بكعب بإصبع القدم مع توجيه أعناقها إلى الداخل نحو مركز جزيء الحمض النووي.
لاحظ واتسون وكريك أن هيكل الحمض النووي المقترح لهما قد حقق سمتين ضروريتين للجزيء الوراثي أولاً، يجب أن يكون الجزيء الوراثي قادرًا على التكاثر بحيث يمكن نقل المعلومات إلى الجيل التالي لذلك، افترض واتسون وكريك أنه إذا تم فصل نصفي اللولب المزدوج، فيمكنهما العمل كقوالب لتركيب حلزوني مزدوج متطابقين، ثانيًا يجب أن يحتوي الجزيء الوراثي على معلومات لتوجيه تطور كائن حي كامل لذلك ، توقع واطسون وكريك أن تسلسل النيوكليوتيدات قد يمثل معلومات مشفرة من هذا النوع.