نظريات واكتشافات في علم الأحياء الدقيقة:
رغم الاعتقاد الذي ساد تفكير العلماء سابقاً بأنه توجد مخلوقات صغيرة لا يُمكن رؤيتها بالعين المجردة، فإنَّ أول من تمكن من رؤية هذه الكائنات المجهرية عام 1685 ميلادي كان الهولندي فان ليفنهوك الذي كان يهوى صناعة العدسات، وذلك من خلال النظر إلى قطرة ماء بمجهر صنعه بيده. وبما أن ليفنهوك لم يكن على معرفة سابقة بماهية الكائنات الصغيرة التي رآها فقد أسماها حيوانات (Animalcules)، وكتب مشاهداته بسلسلة من الرسائل إلى الجمعية الملكية بلندن وتمكن من رسم ما رآه بدقة متناهية.
وبعد اكتشاف ليفنهوك بذلت محاولات عديدة لتصنيف الكائنات التي تمت مشاهدتها،
ولكن ضعف قوة التكبير للمجاهر التي صنعت في ذلك الوقت كان عائقاً أمام انجازات ذات أهمية تذكر. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونتيجة للتقدم في صنع المجهر وأساليب الصباغة ودراسة الخلايا فقد انشغل العلماء بمحاولة الإجابة على أسئلة تتعلق بالحياة وأصلها تمثلت بموضوع “الخلق الذاتي” (Spontaneous Generation).
ويعود الاهتمام بالخلق الذاتي إلى منتصف القرن الثامن عشر وبالتحديد إلى عام 1749 ميلادي؛ حيث أجرى الراهب الكاثولوكي جون نيدهام تجربة بسيطة لإثبات أن الحياة قد تنشأ من أصل جماد. فقد أخذ نيدهام كمية من مرق اللحم وسخنها إلى درجة الغليان بدورق مسدود وظل يُراقبها لعدة أيام. وعندما تعكر المرق استنتج أن المادة العضوية في المرق تحولت إلى حياة.
وفي عام 1765 ميلادي أعاد العالم لازاروسبلانزاني تجربة نيدهام، ولكنه استعمل دوارق أحكم إغلاقها قبل التسخين لمنع دخول الهواء إلى المرق. وبعد مراقبة الدوارق لمدة طويلة لم يظهر التعكر على أيّ منها إلا ما تعرض للهواء منها بعد التسخين. ولكن أنصار نظرية الخلق الذاتي تمسكوا بالإعتقاد السائد في ذلك الوقت بأن الهواء ضروري للحياة ولا يمكن أن توجد الحياة بدونه. لذا فقد أعاد العالمان شوان وشولتز تجربة سبلانزي بدوارق مغلقة وعندما فتحت للهواء لم يُسمح بدخوله إلا بعد أن يمر بدوارق تحتوي على محاليل من حامض الكبريتيك وهيدروكسيد البوتاسيوم. وكانت نتيجة هذه التجربة أن المرق لم يتعكر رغم دخول الهواء إليه.
ومرة أخرى اعترض أنصار نظرية الخلق الذاتي بأن الهواء كان يحتوي على “قوة حيوية” تُسمّى (Vitalizing Power)، وقد فقد هذه القوة بمروره على محاليل كيماوية. وفي عام 1854 ميلادي أعاد العالمان شرويدر وفون دوش التجربة السابقة ولكنهما ادخلا الهواء إلى الدوارق بعد مروره على مرشح من القطن وحصلا على نفس النتيجة، وهكذا بقيت نظرية الخلق الذاتي تراوح مكانها إلى أن قضى عليها وأثبت بطلانها العالم الفرنسي لويس باستور الذي عاش ما بين (1822-1895) ميلادي.
أثبت باستور بأن الهواء يحتوي على أجسام متناهية في الصغر تُشبه إلى حد بعيد الأجسام الموجودة في الأطعمة الفاسدة، وأن هذه الأجسام الصغيرة ما هي إلا مخلوقات حية تُسبب فساد الأطعمة عندما تسقط من الهواء، وهي التي تسبّبت في تعكر مرق اللحم بتجربة سبلانزي وغيرة من العلماء وليست “قوة حيوية” موجودة في الهواء. ولإثبات صحة إعتقاده طور باستور دوارق ذات عنق أنبوبي طويل مفتوح. وبعد تسخين المرق وتركه ليبرد لم يغلق باستور هذه الدوارق وتركها فترة طويلة دون أن تتعكر إلا إذا كسرعنق الزجاجة، فإن الكائنات الحية تظهر مرة أخرى في المرق.
وبهذه التجربة البسيطة نرى كيف أثبت باستور أن الحرارة تَقتل الجراثيم ويبقى الوسط معقماً مغلقاً بعيداً عن الهواء. وأثبت كذلك أن الهواء يحتوي على أجسام حية تشبه حويصلات الحيوانات الأولية وأبواغ (السبورات) الفطريات والبكتيريا، هي المسؤولة عن فساد الأطعمة.