طبيعة النظام العام الحديث:
إن أهم ما يميز الدول المتقدمة عن الدول النامية هو أن الدول المتقدمة دول منظمة، في حين أن معظم الدول غير المتقدمة تعاني من الفوضى في كثير من جوانب الحياة. وإذا تم النظر إلى هذا من زاوية النظام العام، فإن درجة النظام السائدة في الشارع تعتبر معيارًا لقياس درجة النظام على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، بالنظر إلى أن الدول المتقدمة تؤمن بقيمة النظام وأهميته؛ لذلك يسعى إلى جعله مبدأ يسود جميع جوانب الحياة، حيث تعتبر الرقابة الإدارية من أهم أنشطة الدول المتقدمة بشكل عام، ويبدو أن قيمة النظام لا تدركها الشعوب الأخرى.
ويرتبط مفهوم النظام العام وتطوره بتطور وظيفة الدولة، خاصة بعد تدخلها في جميع المجالات بعد تقييد دور الدولة الوصية، حيث اشتمل ظهور الخدمات العامة على جوانب مختلفة من الحياة، وأدى إلى توسيع وظيفة الإدارة في مختلف المجالات التجارية والصناعية للشركات والمؤسسات. وعلى وجه الخصوص، هيئة الرقابة الإدارية لإدارة الشركات وهكذا اتسعت محتوياتها بعد أن اقتصرت على الأمن والصحة والطمأنينة العامة للعامل، الأمر الذي انعكس إيجاباً على تطور مفهوم النظام العام.
فإن إطار سلطة مدير الشركة الشرطية يعمل بهدف الحفاظ على حرية ونشاط العامل والقضاء، خاصةً على سبيل المثال في فرنسا، له دور مهم في توسيع أغراض الرقابة الإدارية للشركات، حيث أقر بحق الجهات الرقابية في التدخل لحماية الآداب العامة؛ للحفاظ على جمال وبريق الأماكن العامة وحماية النظام الاقتصادي وتوسعت سلطة الرقابة الإدارية في ظل الدولة الحديثة نتيجة التطور الاجتماعي الكبير بعد أن ضاقت سلطاتها في القرن الثامن عشر. وعمل المشرعيين وخاصةً أنصار الطائفة الفردية، على تضييق سلطة الرقابة الإدارية، وحصر فكرة النظام العام في دائرة القانون.
تأثر النظام العام بالأفكار الخيرية:
يتأثر هذا النظام بأفكار أخرى كالصالح العام والأعمل الخيرية؛ لأسباب تتعلق بالدور السلبي للدولة الحاضنة وفرضها قيوداً على السلطات العامة؛ من أجل استبعاد تدخلها في الأمور الاقتصادية والاجتماعية؛ ممّا أدى إلى لتضييق فكرة النظام وحصر سلطة الرقابة الإدارية للشركات على أهدافها التقليدية المحدودة المتمثلة في الأمن والصحة والهدوء العام.
ولكن مع تطور الحياة الاجتماعية للأفراد في مجالاتها المختلفة، أصبح من الضروري التدخل السريع لهيئات الرقابة الإدارية للشركات وكيفية تنظيمها بعد التوسع الذي شمل الجوانب الاقتصادية العمل، العمال، التجارة، حماية المستهلك في قانون العمل وحق الملكية والقانون الذي يحكم هذه الأمور.
بحيث إذا تُرك العمال لممارسة حرياتهم الاقتصادية دون قيود، فإن ذلك من شأنه زعزعة الأمن والنظام في الدولة وتأثيره على اقتصاد الدولة، وهذا من شأنه أن يؤثر سلباً على النظام الاجتماعي، الأمر الذي دفع معظم دول العصر الحديث إلى توجيه الاقتصاد الوطني من أجل السيطرة، وجعلت غالبية الآراء تتحول في الوقت الحاضر إلى أنه يعتبر هذه الحريات وظائف اجتماعية هدفها خدمة الصالح العام للمجتمع بدلاً من الحقوق الفردية. وأصبحت الحريات الاقتصادية ساحة خصبة لنشاط سلطات الرقابة الإدارية على الشركات والمنشأة، حيث تدخلت الدولة الحديثة لتنظيمها ضمن واجباتها الأساسية، من خلال توفير الرفاهية للأفراد.
لذلك تدخلت الدولة في تنظيم الاقتصاد وعملت على فرض قيود على ممارسات العمال في العمل، وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في عدد من دساتير الدول التي تحكم العامل والعمل والإدارة والمستهلك، وبالتالي النظام الاقتصادي العام، والذي اتخذ جانبين؛ الأول حمائي يهدف إلى حماية الأطراف الضعيفة، وخاصة المستهلك في العلاقة العقدية بين البائع والمستهلك، والتوجيه الثاني يسلط الضوء على توجيه الدولة للاقتصاد من خلال سياسة الأسعار وقانون المنافسة، وهذا التطور أدى إلى ظهور للنظام العام التنافسي.
بحيث يرى البعض أن النظام الاقتصادي العام يهدف إلى المنافسة تحت مسمى النظام العام التنافسي، حيث فرض جانب المنافسة نفسه من أجل السيطرة على السوق كنتيجة حتمية لتدخل الدولة، وهذا ما يفيد المنظمة من السوق للمجتمع بإدخال المرافق العامة في مجال المنافسة.
وتشكل قواعد قانون العمل نظامًا اجتماعيًا هدفها حماية مصلحة العامل كطرف ضعيف في العلاقة التعاقدية في مواجهة صاحب العمل 32 مصطلح “النظام العام الاجتماعي”، فهو مصطلح حديث نسبيًا وهو مفهوم متغير وفقًا للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يمر بها المجتمع، والتي تتمثل في مجموعة من القواعد الآمرة التي تعرض لها المشرع في كل من قانون العمل والضمان الاجتماعي.