عوامل تطور الجغرافيا الطبيعية بعد عام 1850:
ظلَّ الرأي القائل بأن خلق الأرض كان في سنة 4004 قبل الميلاد سائداً حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، بذلك من الضروري أن تكون الأشكال الرئيسية فوق سطحها قد تكوَّنت في وقت قصير كنتيجة لأحداث سريعة.
كما عُرف هذا الرأي بمبدأ الطفرة في التشكيل والذي كان محاولة لجعل معدل العمليات الأرضية، يتفق مع الأفكار السائدة عن عُمر الأرض.
وبعد ذلك ظهرت وسط هذه الآراء حول أشكال سطح الأرض، أفكار مهمة كان لها تأثير قوي واضح على التفكير العلمي، حيث ظهرت هذه الآراء في مبدأ الاضطراد أو الانتظام ونظرية التطور، فهي آراء دعمها فيما بعد ما توصلت اليه الكشوف الجغرافية. فقد أنكرت نظرية الانتظام 1795 مبدأ الطفرة في تفسير البيئة، حيث بيَّنت أن تفسير تاريخ الأرض يكون من خلال وجود عمليات متواصلة موحدة، كما أعلنت فكرة أن الحاضر يفسر الماضي، التي كانت من أهم الخطوات في اعتبار أن سطح الأرض الحالي، من المحتمل أن يوفر معلومات حول عمليات وآليات اللاند سكيب والتي بدورها يمكن أن تساعد على فهمنا للماضي، بمعنى أن حدثاً سابقاً أو مجموعة من أحداث متداخلة هي أصل الصورة الحالية.
وكان لهذه النظرية تأثير قوي على الجيولوجيا أولاً ثم على الجغرافيا الطبيعية بعد ذلك. وكان لنظرية التطور أثر كبير على الفكر الجغرافي بوجه عام فقد تبنَّتها المدرسة الجغرافية الألمانية، على يَد كل من ريتر وهمبولدت وراتزل. كما قام البعض باعتبار أن أثر هذه النظرية كان عاملاً كبيراً في تحويل الجغرافيا، من مجرد علم وصفي إلى علم يبحث عن الأسباب والعلل ويربط بين الظاهرات المختلفة. أمَّا فكرة التطور، التي تقوم بالتغيّر التدريجى نسبياً في خصائص الأجيال المتتابعة لأنواع الكائنات، فقد تخللت الجغرافيا الطبيعية بشكل كامل بعد أن نشر تشارلز داروين أصل الأنواع في سنة 1859.
كما انعكس تأثير نظرية التطور على الجغرافيا في أعمال ديفيز، الذي جسَّد فكرة التطوّر المرحلي للأشكال الأرضية في دورة التعرية التي وصفها بدورة الحياة، متأثراً بفكرة التغير. بالإضافة إلى تأثير آخر مشابه في جغرافية النبات والايكولوجيا تمثّل فيما اقترحه كلمنتس في 1916 عن التعاقب أو التتابع النباتي. ومن أبرز مظاهر تأثير داروين في الجغرافيا فكرتي التغير عبر الوقت، التي انعكست في أعمال كل من ديفز كلومنتس، التنظيم أو التي قادت إلى التركيز على العلاقات الداخلية والارتباط تُبين الكائنات الحية وبيئاتها، أوصلت فيما بعد تانسلي (1935) إلى فكرة النظام البيئي.
وقامت عمليات المسح والتخريط، بالإضافة إلى الكشوف بتشكيل مصادر مهمة؛ لِما أضيف للجغرافيا الطبيعية من معلومات، حيث لم تقتصر أهمية تلك الكشوف على زيادة دائرة المعرفة بالعالم من خلال توفير معلومات عن مواقع شبه مجهولة وعلى تطوير صناعة الخرائط فقط، بل سهَّلت الاتصال ببيئات كانت مجهولة وبذلك شجَّعت ظهور أفكار جديدة عملت على تطور بعض فروع الجغرافيا الطبيعية، مثل دراسة الجزر المرجانية، كما ساعدت على تفسير الأشكال الناتجة عن التعرية والإرساب الجليدي.
وبتأسيس مصلحتي المسح والتخريط والمسح الجيولوجى توفرت مصادر جديدة لمعلومات أساسية للجغرافيا الطبيعية، ما تلى ذلك من تخريط لمظاهر أخرى من البيئة الطبيعية، مثل دراسات مسح التُربة والنبات واستعمالات الأرض إلى جانب التوسع في إنشاء محطات أسوأ لقياس الأمطار أو للأرصاد الجوية. وبعد عام 1850 أخذ الاهتمام يتزايد بحماية البيئة والحفاظ عليها؛ بسبب تطوير الإنسان لأراض كانت طبيعية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، قد وردت أول الأفكار حول هذا الاتجاه عام 1864 في كتاب (الرجل والطبيعة) للأمريكي جورج برنكز، الذي أعتبر أول مساهمة أكاديمية في مجال المحافظة على البيئة.
ورغم ما كان لهذا العمل من تأثير كبير على الطريقة التي يستخدم بها الإنسان الأرض، إلا أن الجغرافيا الطبيعية لم تعطِ هذا العمل الرائد حقّه وتستخدم ما ورد به من أفكار، إلا بعد سنوات من نشره مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين حدث تغير في طرق البحث الجغرافي، حيث أخذ الجغرافيون في تبنّي نهج علمي يعتمد على التقنية الكمية. وفي هذه الثورة الكمية أصبح القياس ، الذي أستخدم أساساً في اختبار الفرضيات، يشكل الاهتمام الرئيسي لبحوث الجغرافيا الطبيعية.
كما ارتبطت الثورة الكمية بتغير الطريقة التي تدرس بها الجغرافيا الطبيعية الأرض وظواهرها المختلفة، حيث تحول الباحثين في دراساتهم إلى التركيز على فحص العملية بدل الوصف المجرد للظاهرة الجغرافية. وقد ساد استخدام هذا النهج الكمي في الوقت الحالي؛ ذلك بسبب ما حظيت به تقنية برامج الحاسوب من تطور.
وإلى جانب الثورة الكمية، برز اهتمام كبير بدراسة العلاقة القائمة بين الإنسان والأرض، بعد أن أصبح تأثير نشاط الإنسان على الأرض ظاهراً، قد توجه نتيجة لذلك الكثير من الجغرافيين الطبيعيين بدراساتهم إلى مجال تأثير الإنسان على البيئة، فمن ضمن الاتجاهات البحثية التي سادت على هذه الأفكار تدهور البيئة ومواردها، كذلك أهمية الكوارث الطبيعية واستخدام الأرض في البيئة.
وفي سنة 1964 اقترح ويليام باتيسون أن الجغرافية الحديثة تجمع بين أربعة تقاليد أكاديمية هي التقليد المكاني، حيث دراسة الظاهرة الجغرافية من وجهة نظر إمكانية صرفه. ودراسة المنطقة أو المساحة وهنا تكون الدراسة لمساحة على المستوى المحلي أو الاقليمي أو على مستوى العالم.
أمّا في تقليد الإنسان أو الأرض فإن التركيز يكون على تفاعلات الإنسان مع البيئة. وأخيراً تقليد علم الأرض وفيه تدرس الظاهرة الطبيعية من وجهة نظر مكانية، قد تكون الجغرافيا الطبيعية النظرية ممثلة لهذا التقليد، في (2006) لا تزال هذه التقاليد الأربعة مهيمنة على فروع الدراسات الجغرافية حتى الوقت الحاضر، مع اهتمام متزايد بمشاكل البيئة المرتبطة بنشاط الإنسان كنتيجة لنمو عدد السكان والحاجة للمزيد من استهلاك الموارد الطبيعية.
وقد انعكس هذا الاهتمام في العدد الكبير من الدراسات الجغرافية التي تناولت الكيفية التي يحور بها الإنسان البيئة. كما طَوَّر عدد من هذه الدراسات استراتيجيات، حيث تهدف إلى تقليل الآثار السلبية لنشاط الإنسان على الطبيعة. ومن الأفكار التي هيمنت على هذه الدراسات، التدهور البيئي للغلاف المائي، الجوي، الصخري، الحيوي، الأفكار المتعلقة باستخدام الموارد، الكوارث البيئية، تقييم الآثار البيئية، تأثير التحضر، تغيير استعمال الأرض على البيئة الطبيعية.
أيضاً من الاهتمامات التي تطورت كثيراً خلال العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضي، ذلك النمو السريع للجوانب التطبيقية للدراسات الجغرافية الطبيعية، خاصة في الجيومورفولوجيا والدراسات المُناخية وجغرافية التُربة. ويرجع هذا التطور إلى عدة أسباب منها تزايد المعرفة حول التغيرات المحتملة للبيئة الأرضية، وبالتالي الحاجة إلى فهم الكيفية التي يمكن أن تتطور بها البيئة مستقبلاً. وهذا إلى جانب توفر مجالات عديدة تمكن من إجراء الدراسات الجغرافية التطبيقية مثل الأنظمة البيئية، العمليات البيئية، التغيّر البيئي، تحليل ومعالجة المشاكل البيئية التي ترتبط بنشاط الإنسان.
بمعنى أن الدَّارس يستخدم المعلومات النظرية من الجغرافيا الطبيعية ويوظفها، في حل المشاكل المرتبطة بالظواهر الطبيعية وفي وضع سياسات لادارة البيئة بشكل صحيح. ومن الأمور التي ساعدت على تطور الدراسات الجغرافية التطبيقية استخدام تقنيات الاستشعار عن بعد في رصد وضبط الموارد الأرضية والبيئة، الأكثر استخداماً في هذا المجال هي تقنيات تتبع ورصد أحوال الطقس والتنبؤ بها. إلى جانب تزايد أهمية الاستخدام للنظم المعلومات الجغرافية خاصة في مجال إدارة الموارد.
وكان استخدام الاستشعار عن بعد معروفاً في الجغرافيا الطبيعية منذ سنوات، ذلك من خلال قراءة الصور الجوية
واستخدامها في تقييم الموارد الأرضية وايكولوجية اللاند سكيب والنظم الأرضية. وتطورت هذه التقنيات بعد ذلك إلى
صور فضائية تلتقطها الأقمار الصناعية، التي بدورها عززت البحث في مجال الجغرافيا الطبيعية؛ نظراً لما لهذه الأقمار من قدرة على مسح مناطق شاسعة من سطح الأرض وعلى إعادة تكرار مسح نفس المنطقة مرات عديدة؛ الأمر الذي سهل كثيراً من تتبع التغير البيئىي. كما ساعدت هذه التقنيات أيضاً في حل المشاكل المرتبطة بجمع البيانات البيئية وقللت الحاجة إلى إعادة الرصد والملاحظة.
أمّا فكان تأثيره عظيماً على البحث الجغرافي خاصة ما يتعلق بجمع وتحليل وفهم المعلومات ذات الصلة بالبيئة. وقد زادت قيمة هذه التقنيات بالنسبة للبحوث والتطبيقات الجغرافية خاصة بعد ارتباطها بثورة الكمبيوتر، خلال الثمانينات من القرن الماضي، حيث استخدم الحاسوب في البحوث والتطبيقات الجغرافية. أمّا على مستوى المتخصصين في الجغرافيا الطبيعية فقد ساعدت هذه التقنيات على تبني نظرة شمولية في دراسة البيئة الطبيعية، كما مكَّنت من المساهمة في اقتراح حلول محددة لمشاكل ذات طبيعة مكانية، إلى جانب دورهم في مجال الاستشارات في البحوث التطبيقية وعملهم ضمن هيئات ذات علاقة بإدارة البيئة.