على الرغم من أن كل شعب له موروثه الثقافيّ الذي يخصّه، والمرتبط بمخزونه اللغوي الذي يعبر عن المواقف التي تمر عبر العصور والأزمنة، وقد تطورت لغة وآداب الإنسان من عصر إلى عصر، ومن حديث إلى أحدث، غير أن الأمثال الشعبية والفصيحة بقيت مرتبطة بالإنسان ومستمرة، فنجد الأمثال على إيجازها وخفتها رفيقة الإنسان في المواقف والأحداث المختلفة، تصوّرها وتصفها وصفًا دقيقًا، وهي الأمثال ذاتها التي استخدمها الآباء والأجداد، دون تطور أو تقدم، إنما تُعدّ عند الكثيرين مرآة للحكمة وملاذًا يلجأ إليه المرء عند الحاجة، فإما أن يكون استخدامها للاتعاظ بها، أو لتوجية النصح للآخرين.
فيم يضرب مثل: “تحت الرغوة اللبن الصريح”؟
يُعتبر مثل “تحت الرغوة اللبن الصريح” من الأمثال العربية، والتي يقولها الفطن الذي لا يخدع بما بطن فليس كل ما تحت الرغوة لبن.
قصة مثل “تحت الرغوة اللبن الصريح”:
أما حكاية مثل “تحت الرغوة اللبن الصريح”، فيُروى أن عامرًا بن الظرب كان يزاحم الناس في موسم الحج، فكان أن رآه واحد من ملوك حمير، فسخط عليه، فقال: لن أترك هذا المعتدي حتى أذله وأفسد عليه أمره، فما إن عاد الملك الى دياره، أرسل إلى عامر بأن “زرني حتى أقربك إليّ، وأكرمك”، فأتى قومه يستشيرهم، فقالوا له: فلنخرج معك حتى يرى جاهك وعزك بين قومك، فخرج الى الملك ومعه جمع منهم.
لما وصل عامر بن الظرب إلى بلاد حمير، وقع في قلبه هاجس وشك، وشعر بسوء ما صنع بنفسه وبقومه باستعجاله الذهاب إلى الملك، فقال لأصحابه: ألا ترون أن الهوى يقظان، وأن العقل نائم، وهو أيضًا مثل هو أول من قاله، “فمن هناك يغلب الرأي الهوى، ومن لم يغلب الهوى بالرأي ندم، عجلت حين عجلتم، ولن أعود بعد ما أعجل برأي، لقد تورطنا في بلاد هذا الملك، فلا تسبقوني بريث أمر أقيم عليه، ولا بعجلة رأي أخف منه، دعوني وحيلتي، فإن رأيي لي ولكم”، ثم إنه قدم على الملك فأكرمه وأصحابه، فقالوا لعامر: و”إن تحت الرغوة اللبن الصريح”، وهو القول الذي ذهب مثلًا.
ثم إن عامرًا أقام مع قومه عدة أيام، إلى أن بعث إليه الملك، وقال له: إني رأيت أن أجعلك الناظر في أمور قومي، فقد رضيت بعقلك، فأريدك أن تتفرغ لما أرغب، فقال له عامر متحايلًا: “أحسب أن رغبتك في قربي بلغت بي أن تخلع لي ملكك، وقد تفضلت إذ أذهلتني لهذه المهمة، ولي كنز علم لست أعمل إلا به، تركته في الحي مدفونًا، وإن قومي لا يتخلون عني، فاكتب لي سجلًا بجباية الطريق؛ فيرى قومي طمعًا تطيب أنفسهم به عني، فأستخرج كنزي، وأرجع إليك”، خُدع الملك بحيلة عامر، فكتب له سجلًا بجباية الطريق، فجاء به إلى أصحابه، وقال لهم: ارتحلوا، فلما ابتعدوا عن بلاد الملك، قالوا له: لم نرَ كاليوم وافد قوم ولا أبعد منالًا منك، فقال لهم: مهلًا، فإنه ليس على الرزق فوت، وغانم من نجا من الموت، والملك خوف، والسيف حيف، ومن لم يرَ باطنًا يعش واهنًا.
إذًا مثل “تحت الرغوة اللبن الصريح” يُقال عن المرء الفطن الذي لا يُخدع بالباطن، فليس الجميع يستطيع أن يرى ما تحت الرغوة من لبن، فنراه منجرفًا وراء المعسول من الحديث، فعلى الإنسان أن يكون ملمًّا ببواطن الأمور، وأن يأخذ الحيطة والحذر حتى يسلم فيسلم قومه.