إن جميع أمم الأرض تمتلك موروثها الثقافي الخاص، والذي بدوره يعبّر عن الكثير من الوقائع والمناسبات، التي حصلت خلال التاريخ، ولعل من أكثر أنواع التراث شهرة “الأمثال الشعبية” والحكم، ويقوم الناس باستخدام هذه الأمثال أو الحكم إذا مرّوا بظرف أو حدث مشابه للحدث الأصلي الذي قيلت فيه تلك الأمثال، فيعبرون عنه بمثل أو حكمة، وهكذا تبقى محفوظة، ويتداولها الناس جيلًا بعد جيل مع إضافة ما استجد من أمثال تعبر عن أحداث الحاضر.
متى يُضرب مثل ربّ رمية من غير رامٍ؟
يُعتبر مثل “ربّ رمية من غير رامٍ” من الأمثال العربية المشهورة، والشائع ترديدها في مجالس العرب، ولو أردنا أن نستعرض معنى هذه المقولة فإنها تعني أن يصيب أحدهم رميه دون درايته بالرماية، وهي مقولة مجازية تُستخدم عندما يصيب أحدهم في رأيه أو أمر ما من باب الصدفة، إذ يردد الكثير من الناس هذا المثل عندما يصيب أحد الناس هدفًا، لم يكن مقصودًا إصابته بل ويصيبه إصابة دقيقة بالصدفة، أو عندما ينجح شخص في إنجاز مهمة ما، دون أن يكون هناك أي إعداد مسبق أو خبرة تؤهله لإنجاز تلك المهمة.
قصة مثل “ربّ رمية من غير رامٍ”:
أما بالنسبة لقصة مثل “ربّ رمية من غير رامٍ”، فهي تعود إلى رجل اسمه “حكيم بن عبد يغوث المنقري”، وقد عُرف عن هذا الرجل أنه كان راميًا محترفًا يصيب هدفه من الرمية الأولى، وقد كان الحكم المنقري أرمى أهل زمانه، أي أكثر الناس مهارة في الرماية وإصابة الهدف، فلم يكن الحكم المنقري يوجه سهمه تجاه هدف معين، إلا ويحسن إصابة الهدف ببراعة ومهارة فائقة، حتى لُقب أرمى أهل زمانه، غير أنه في فترة ما أصابه النحس وسوء الطالع.
لأيام متوالية بقي حكيم يخرج للصيد، وهو يحاول أن يقتنص أهدافًا بسهامه، ولكن دون جدوى، واستمر على هذه الحال لعدة أيام، لدرجة أن الشك بدأ يساوره، وكما أنه أصبح لا ينام بشكل جيّد، وفي يوم من الأيام استيقظ الحكم المنقري، وتطلع إلى أحد الأصنام الموجودة في منزله، وقال لنفسه: آليت أن اذبح على هذا الصنم مهاة، والمهاة هي البقرة الوحشية الأفريقية، وتتميز بالقرون الطويلة المنحنية والعيون الواسعة، وكانت تلك المهمة سهلة بالنسبة للحكم المنقري، لأنه رامٍ ماهر، فهو يصيب هدفه بسهوله، فخرج الحكم المنقري للصيد، فمرت أمامه مهاة فشد قوسه وصوبه نحو المهاة، غير أن السهم لم يصب هدفه، إذ إن المهاة قد هربت.
ثم إن المنقري انتظر قليلًا إلى أن مرت من أمامه مهاة أخرى، فقام بشدّ قوسه وصوب سهمه نحو المهاة، غير أن الحظ لم يكن حليفًا له كذلك، فقد لاذت المهاة بالفرار، ولم يتمكن الحكم المنقري في ذلك اليوم من اصطياد المهاة، التي عزم على صيدها، تمكنت الحيرة من المنقري، إذ إنه ليس من عادته الفشل في إصابة أي هدف، فانتظر حتى مرت مهاة أخرى فشد قوسه نحوها، غير أن السهم قد مرّ بجانبها ولم يصب الهدف، بعدها عاد الحكم المنقري إلى قومه خجولًا، فقالوا له: خيرًا إن شاء الله.
أجاب المنقري قومع قائلًا: لا والله لا خير عندي، وظن أنه جني جناية فعزم على قتل نفسه، فتساءل قومه: لماذا تريد أن تقتل نفسك؟ فقال المنقري: لأني آليت أن أذبح مهاة، وأقدمها لصنمي، ولم استطع فأخشى أن يصيبني سوء من هذا الصنم، فقال له أحد الجالسين: يا أخي، اذبح عشرة من الإبل، بدلًا من تلك المهاة ولا تقتل نفسك، فتكون قد تقربت من الصنم بتقديم قربان أكثر، فرد المنقري: لا يمكن أن أخلف قسمي.
ثم إن المنقري قد عزم على الخروج للصيد مرة أخرى، فطلب منه ابنه الغلام الصغير، أن يحمله معه إلى لصيد، فرد المنقري في سخرية، وقال: هل تستطع أن تصيد ما أنا عاجز عن صيده، فما أنت إلا غلام رعش وضعيف، وفي اليوم التالي خرج المنقري مع ولده، وما أن وصلا إلى الصحراء مرت مهاة، فطلب الابن قوس والده، وشد قوسه نحو المهاة وأصاب الهدف، فنظر الأب إلى ابنه وهو مندهش، وقال له: يا بني، ربّ رمية من غير رامٍ، فذهبت مقولته تلك مثلًا يردده الناس، وقد تناقلته الألسن إلى أن وصل إلينا.