جميع الشعوب التي عاشت على أطراف المعمورة، تمتلك ميراثًا ثقافيًّا يخصها، وهو يجعلها تتفرد به عن غيرها، وهو بدوره يعبّر عن الكثير من الوقائع والمناسبات، التي حصلت خلال التاريخ، ولعل من أكثر أنواع التراث شهرة “الأمثال الشعبية” والحكم، ويقوم الناس باستخدام هذه الأمثال أو الحكم إذا مرّوا بظرف أو حدث مشابه للحدث الأصلي الذي قيلت فيه تلك الأمثال، فيعبرون عنه بمثل أو حكمة، وهكذا تبقى محفوظة، ويتداولها الناس جيلًا بعد جيل مع إضافة ما استجد من أمثال تعبر عن أحداث الحاضر، والمثل الذي بين أيدينا هو: “ربّ أكلة تمنع أكلات”.
فيم يضرب مثل رب أكلة تمنع أكلات؟
مثل: “ربّ أكلة تمنع أكلات”، من الأمثال العربية المشهورة، التي ضمتها صفحات أمهات كتب الأمثال العربية، وهو يُضرب في ذم أولئك الذين يحرصون على الطعام والرزق السهل دون أن يعلموا أنّ “وراء الأكمة ما وراءها“، وقد روى المفضل الضبِّيّ: أنَّ صاحب هذا المثل، هو: “عامر بن الظرب العدواني”.
قصة مثل: “رب أكلة تمنع أكلات”
كان ممّا رُوي عن عامر بن الظرب أنه كان يدفع الناس في الحج، فشاهده أحد ملوك غسان، فقال: “لا أترك هذا العدواني، أو أذلّه“، فما إن آب الملك إلى منزله، أرسل إليه أحبّ أن تزورني فأقربك، وأكرمك واتخذك خليلًا، فأتاه قومه، فقالوا: تفد ويفد معك قومك إليه؛ فيصيبون في جنبك، ويتوجهون بجاهك.
بالفعل خرج عامر ومعه رهط من قومه، إلى بلاد الملك الغساني أكرمه ومن معه، ثم ظهر له رأي الملك فجمع رفاقه، وقال: “الرأي نائم والهوى يقظان، ومن أجل ذلك يغلب الهوى الرأي، عجلت حين عجلتم ولن أعود بعدها، إنا قد توردنا بلاد هذا الملك، فلا تسبقوني بريث أمر أقيم عليه، ولا بعجلة رأي أخف معه، فإن رأيي لكم“، فقال قومه له: “قد أكرمنا الملك كما ترى، وبعد هذا ما هو خير منه”، فقال: “لا تعجلوا فإن لكل عام طعام، ورب أكله تمنع أكلات“.
ثم إنّ الملك أرسل إلى عامر بن الظرب، فتحدث عنده، وقال له: “قد ارتأيت أن أجعل منك الناظر في أموري”، فقال له: إنّ لي كنز علم لست أعمل إلّا به، وقد تركته في الحي مدفونًا، وإنّ قومي أضنَّاء بي، فاكتب لي سجلاً بجباية الطريق، فيرى قومي طمعًا تطيب به أنفسهم، فأستخرج كنزي وأرجع إليك وافرًا.
كتب الملك لعامر بالذي سأل، وأتى رفاقه، فقال: ارتحلوا، حتى إذا أدبروا، قالوا: لم يُرَ كاليوم وافد قوم أقل ولا أبعد من نوال منك، فقال: مهلًا، فليس على الرزق فوت، وغنم من نجا من الموت، ومن لا يرَ باطنًا يعش واهنًا، فلما قدم على قومه، أقام فلم يعد، والمثل وقصته عبرة لئلّا ينخدع الإنسان بظواهر الأمور، فلا يستعجل فيلقي بنفسه إلى التهلكة.